واثق غازي
ما الذي يعنيه الرثاء؟ لماذا نرثي الآخر؟ لماذا ننشأ صلة بمن يفك صلته بنا، هل يجب أن نحفر في مدونات الرثاء على مدى تأريخ الكتابة لنعرف بعد جهد طويل، أن ما كُتب لا يَمُتّ بصلة لمن يرحلون، إنما هو المحاولة الأبدية للحيلولة من أن نقع في فخ الاستسلام المقيت لفكرة أننا سنلاقي ذات المصير. أن أجمل قصائد الرثاء تلك التي يرثي الحيّ بها نفسه، وهي قليلة ونادرة، ولكن غالباً ما نجد اصداء لرثاء الذات في رثاء الآخر، وهذا التداخل في المشاعر وتقويل الآخر متجذر في ثقافتنا العربية وله أثر في مدوناتنا الأثرية، وأن كان بصيغ وطرق تعبير متفاوتة.
يَخص الشّاعر: حسين عبد اللطيف، صديقه الشّاعر: أحمد أمير الجاسم، بقصيدة رثاء في ديوانه الموسوم (أمير من أور) الصادر عام 2010 عن دار ينابيع السورية، وهذا الكتاب الشعري هو مخصص بالكامل للشاعر: أحمد أمير الجاسم، بكل قصائده التي صدر البعض منها قبل رحيل (أمير) وبعضها الآخر صدر بعد وفاته. وقد أولى حسين عبد اللطيف للاقتباس والإشارات والأسماء حيزاً في هذا الكتاب، وهي ـ الاشارات ـ تعمل كموجهٍ قرائيّ ذو دلالات متعددة.
إلا أنه لا يُعدُ الاقتباس جزءاً مهماً في تقديم أي نص أدبي مهما تكن الصلة الموضوعية قريبة من النّص ومضمونه، وذلك بسبب من أن الاقتباس هو حالة استحضار لاحقة تُحفز وجود الشعور الآني المسجل جراء التعرض لوقع تلقٍ ما. وما تكرار الاشارات والاقتباسات في مجموعة (أمير من أور) إلا مقتربات تحاول الاجابة عن سؤال الحيرة الأبدي، ولا تفلح قطعاً إلا في طمأنة (حسين) على مسار سيره نحو الافصاح عما أرجأه.
وفي سبيل ذلك يحاول (نص المرثية ـ أمير من أور ـ) أن يعلي من أثر الحضور المادي الممثل بالملكة الفردية لأمير أحمد الجاسم. على أن الحضور المادي بكل ما يرافقه من تعدد الملكات، يبقى حضورا ً ناقصاً، ولا تدرأ عنه كل محاولاته في التشبث بترك الأثر. ذلك لأن النقصان حاصل لا محالة، ولا تجلب لمن يحاول أن يجعل من تلك الملكات المتصفة بأصحابها سوى القدرالأكبر من الضياع، في مواجهة فهم المغزى من اثبات ذلك (الكائن) بكل بهائه واندثاره، كمن لم يكن.
يتعدد أثر المباينة في عدة بنيات سياقية في نص المرثاة ـ أمير من أور ـ ولعل تتبعها بشكل تفصيلي يكشف لنا الترابط بين طبيعة القول ومعناه:
فهم النهاية على أنها نوع من التخلي
(الآن …
وقد انتهينا من كل شيء
… فلم يعد من طائل وراء هذا السعي المحموم
في هذا العالم …)
من الذي أنتهى؟ من هم الذين انتهوا، ومما انتهوا، ما هو الذي كان يرتجى؟ ولماذا كان السعي وراءه محموماً. هذه أسئلة كلها تتوارى خلف هذا المفتتح. وللإجابة بشيء من الاقتصاد نترك أهم مفردة في هذا النّص الى نهاية التعليل (الآن …)
ما قد يبدو عابراً هو ربط الموت بالنهاية، ولكن النظر الى الوجه الآخر من (وقد انتهينا من كل شيء) يجعلنا نعرف، أن بتقدير الراثي هو ما كان يعتبره استمرارا لوجود لا ينتهي ـ وهو هنا، ذلك الفضاء الواسع من تحقيق الذات ـ الذي وفرته الملكة الفردية للمرثي، قد أنتهى بنفس القدر الذي فقده الراثي، بمعنى أن حُسيناً كان على ذات القَدر من التطلع وذات القدر من الكفاءة اللتان يشعر أنه فقدهما بفقدان أمير. وأن الذين انتهوا ليسا شخصين في مواجهة مصير واحد، بل النهاية هنا، نهاية التطلع الذي كان بحكم واقع (حسين) محكوما عليه بانغلاق الأفق وواقع (أمير) المحكوم عليه بالشتات، والنهاية هنا نفاد الخيارات في مواجهة المصير وليس حتمية المصير. وهكذا يصبح السعي وراء الأشياء لا طائل منه ويصبح هذا العالم بسعته محدوداً كمحدودية (الآن …) التي تحدد ظرفية منتهية بمجرد وجودها وهذه دلالة تخل ٍ وخيبة أمل كبرى.
الغريم الأبدي
(حيث الغلبة للأفعى
في اقتناص الأبدية وحيازتها منك.
الجهود، كلها، باطلة، تقريباً)
في هذه الاحالة ( النّصية ) نسبة الى النّصوص المعتبرة، يبدو سياق الحديث عادياً ، لكن الذي يغير المعادلة لصالح الراثي هو ذكر المرثي بمفردة ( منك ) من الوارد أن تكون الغلبة للغريم الأبدي في مناكفة الوجود بوصفه تعيين على مشاركة حيز التفرد بالنسبة لفضاء الديمومة ( الأبدية ) ولكن اطلاق كاف المخاطب دون تحديد مسبق يخص الآخر ، هو تخصيص لأنا المتكلم ، حدث بقصدية ، أن الفقد كان مشتركاً فلا حاز ( حسين ) انتزاع الغلبة لنفسه أمام الغريم الأبدي ولا أمكن من أن يُخلصَ ( أحمد ) عبر جهوده الباطلة ، لذا كان الضمير ( منك ) تأكيداً على أنهما كانا واحداً .
• سلطة المحو
(بلا حفيف أو زئير
يدنو متئداً
من فريسته الغارقة في سباتها العميق)
تُشكل سلطة المحو قطب المعادلة الثابت الذي يدور حوله: فهم حسين للموت من خلال نصه، وفهم أحمد، للضياع من خلال تشظيه بين ما يتمناه وما حال دونه مسار حياته، وبين ارادة القطب المتحكم من أن يُمضي حكمتهُ. هذا ما فطن له (حسين) وهو يصف قدرة القطب الحاكم بالأسد الذي يأتي بلا حفيف أو زئير ويدنو متئداً من فريسته الغارقة في سباتها العميق، وهذا الوصف لا يخص به حسيناً سلطة المحو الممثلة بالموت وحده وإنما يقصد ببراعة حالة الغفلة التي تتملك ممن يحلم، وقد مزج هنا نفسه ثانية بأمير في مواجهة الغياب.
• العمى وصفر النرد
(فلست، إلا أحد عميان (بروجل )*
الذين يقودهم الصبيان في الطريق
ملتقطا الحصى والأصداف
وإذ يرمي النرد
لا يجيء النرد على الوجهين إلا صفرا. )
يحرص الكاتب على تحصين وعيه طيلة حياته، ويظل مهموماً بما يعطل ذلك التطلع الدائم نحو كمال المعرفة واستشراف الآفاق القصية. إلا أنه يكون مضطرا ً في لحظات المواجهة مع السائد غير السوي ، لأن يسلم قياده لمن لا يفقه من طلعاته شيئاً ، والحال هذه ، يصبح كأعمى يقوده أعمى آخر ، تلك الحقيقة التي أكدها (بروجل ) في لوحته العميان الخمسة وما العمى وصفر النرد هنا سوى تأكيد من قبل ( حسين ) على أن المحصلة النهائية هي مقامرة كبرى ، يقف الإنسان بملكاته المتعددة أعماً حيالها ، تقوده نوازعه إلى التقاط الحصى ، إشارة الى السعي غير المثمر ، أو الى الأصداف اشارة الى الحظوة التي قد تحضر وترحل مسرعة ، ولا يكون الجهد بينهما سوى صفر النرد ، تلك الحقيقة التي لا بد أن نعرفها بدقة .
• ارجاء المعنى
تلك هي القصائد التي نادراً ما نجدها يسيرة الفهم، ونادرا ً ما تكون غير مؤثرة، وقابلة للقراءة بأكثر من وجه، القصائد التي تبنى واعية بذاتها. لقد قصد (حسين عبد اللطيف) من عتبة مطلع القصيدة، الحديث عن نفسه من خلال رثاء صاحبه (أحمد) وقد استخدم كل براعته الشعرية في محاولة ارجاء ما كان يضمره:
(وان ما عرفته للتو
هو عين ما عرفته أمس
أو ما سأعرفه غداً. )
هكذا يلخص الشّاعر معرفته بمآل الأمور، ما هو آنيٌّ هو ذاته ما قد كان، وهو ذاته ما سيكون، وهذا هو عين التصريح عما في النفس، لم يكن حسين يرثي أحمدا أبدا بل كان يؤثث ذاته على القبول بما تؤول إليه حقيقة الأمور.
1 – المباينة احدى ترجمات المصطلح: Differance
2 – بيتر بروجل الأكبر، لوحة العميان