يوماً بعد آخر ومع استمرار تظاهراتهم لأكثر من اربعة أشهر، يكشف السودانيين بكل شرائحهم ومنحدراتهم عن وعي عميق لتحديات هذه اللحظة الحاسمة التي يمر بها بلدهم العريق. وهذا ما يمكن التعرف عليه في موقفهم الواضح والحاسم من بيان المجلس العسكري الانتقالي، الذي تلاه نائب رئيس الجمهورية ووزير الدفاع الجنرال عوض بن عوف بتنحية رئيسه السابق الطاغية والمطلوب لمحكمة الجنايات الدولية (عمر البشير) ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان بن عوف نفسه مطلوب لتلك المحكمة الدولية. هذا ما اعلن عنه بيان احد اهم التنظيمات المشاركة في الثورة (تجمع المهنيين السودانيين) والذي جدد التاكيد على مطالب الثورة الشعبية في “تنحي البشير ونظامه وتسليم السلطة لحكومة مدنية انتقالية تعبر عن مكونات الثورة، وتنفذ بنود (اعلان الحرية والتغيير) كاملة غير منقوصة..”. موقف المنتفضين هذا حظي بتأييد ودعم اممي واقليمي، تجسد في رفض اسلوب الانقلابات العسكرية والتي تفضي غالباً الى سرقة جهود وتضحيات المناضلين من اجل الحرية، لصالح اعادة تدوير الاستبداد خلف وابل من الشعارات الديماغوجية والاسلاموية التي اهدرت طاقات وثروات المجتمعات والدول في العقود الاربعة الاخيرة.
ان البيان البائس للمجلس العسكري الانتقالي، يعكس ضحالة وعي كاتبيه لما يمر به بلدهم السودان من تحديات مصيرية، وحاجات للتغيير الجذري لا الشكلي الذي يقتصر على استبدال بعض الواجهات وعلى رأسها عمر البشير وعدد من الوجوه المحروقة شعبياً وسياسياً. كما ان هذا الحراك الشعبي الواسع والذي جاء بعد حقبة مريرة من الانقلابات العسكرية التي مهدت الطريق لمثل عمر البشير وعصابته الاسلاموية لبسط هيمنته المطلقة على مقاليد الامور طوال 3 عقود قاسية ومؤلمة؛ يحمل معه دروس وعبر كل هذه التجارب والمغامرات الفاشلة لعصابات الاخوان والعسكر. الموقف الشعبي الصارم رسالته واضحة؛ هم لن يسمحوا بمرور مثل هذه الحيل الشرعية والعسكرية، اذ طالبت بيانات المنتفضين بشكل واضح وصريح بابعاد الجنرالات والقادة المحسوبين على “الحركة الاسلامية”، وهذا يشير الى طبيعة الوعي الذي يحمله صناع “اعلان الحرية والتغيير” والذي اكدته بقوة المشاركة الواسعة والفعالة للمرأة السودانية، التي الهبت بشجاعتها ورصانتها، حماسة واندفاع المتظاهرين ضد حكم البشير وواجهاته الاسلاموية.
ان معركة السودانيين ضد الظلم والتخلف واللصوصية والشعوذة والاستبداد، لن تنتهي بـ “التحفظ” على رأس النظام وعدد من أعوانه وغير ذلك من القرارات التي تضمنها ذلك البيان؛ بل هي تضعهم بمواجهة التحديات التي اخفق اسلافهم في مواجهتها؛ وهي وضع بلدهم ومجتمعهم على الطريق المجرب لبناء الامن والاستقرار والازدهار، وذلك لن يأتي عبر صناعة المزيد من اللصوص والمستبدين والمشعوذين، بل من خلال الشروع بالتأسيس لمشروع الدولة الحديثة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتي تضع نصب عينيها مسؤولية الانتصار لحرية الانسان وتطلعاته المشروعة في العيش الكريم على تضاريس بلد زاخر بالثروات المادية والطبيعية والبشرية. كلنا امل ان يتمكن ثوار السودان من وضع مقاليد “الحرية والتغيير” بيد شجاعة وأمينة ومدركة لضرورات التغيير الجذري مادياً وقيمياً. بيد زعامات وملاكات غير مثقلة برواسب العقائد والسرديات التي عفا عليها الزمن، بل بروح الايثار والقدرة على تقديم أوسع وأفضل الخدمات لجميع السودانيين من دون تمييز على اساس “الهويات القاتلة”…
جمال جصاني