ما نشاهده من طفح هائل لما يطلقون عليه بـ “الاعلام” يحز بالنفس، لافتقاد غالبيته العظمى لمعنى هذه المهنة الجليلة وغاياتها السامية في التقصي عن المعلومة والمعرفة، والتي من دونهما تبقى المجتمعات (افرادا وجماعات) فريسة سهلة لقوى الظلام والهمجية والتخلف. طبعا لا يخلو الامر من محاولات مغايرة تسعى كي تسترد هذه المهنة وظائفها وغاياتها النبيلة، لكنها ما زالت محدودة وفردية، وتأثيرها خافت وسط هذا الكم الهائل من المتسللين لأشد السلطات تأثيراً على مصائر المجتمعات والدول. عندما نتصفح شيئاً مما يحصل امامنا تحت عنوان البرامج والنشاطات الاعلامية، نجدها تتناغم وحاجات مرحلة الذل والهوان قبل “التغيير” وبعده، ونادراً ما نعثر على برنامج او نشاط جاد يستفز عقل المتلقي ووجدانه، في وقت نحن بأمس الحاجة فيه لمن يستفز كل هذا الصمت والخنوع وانعدام الهمة والارادة. منابر وفضائيات واذاعات لديها قوائم ثابتة باسماء من تستضيفهم في برامجها، يعيدون ويكررون خطاباتهم وتحليلاتهم وآراءهم التي لا تضيف جديدا ولا تخرج عن النص وثوابت الركود المتفق عليها مسبقاً.
مقابل كل ذلك الحطام من “المبشرون” بالترويج والأضواء والجوائز والعناوين، هناك بقع الضوء المنسية والمسكوت عنها من بنات وأبناء العراق، وبنحو خاص ممن أضطرتهم الظروف القاهرة والمناخات الطاردة لكل من تورط بنزاهة وكفاءة، لان يرحل بعيدا عن وطنه وأهله. ذلك الرأسمال العلمي والقيمي المبعد، والذي يمثل الضد النوعي لهذا الركام من النكرات التي تسللت الى المواقع القيادية والادارية في البلد قبل “التغيير” وبعده، محروم من ادنى اهتمام لهذه الوسائل الاعلامية التابعة والذليلة لسلطة حواسم حقبة الفتح الديمقراطي المبين، وشراهة قوافل ما أطلقنا عليه بـ “عراقيو دول الجوار”. اعلام لا يستفز كل “طيحان الحظ” الذي نعيشه في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية، لا علاقة له بهذه المهنة فهو بسيرته وسلوكه واطباعه ووظائفه الحالية هو أقرب الى اللجام منه الى هذه المهنة التي تتعاطى مع أنبل واهم خصيصة امتلكها البشر (العقل) والذي يمنح ويحدد للانسان مصائره.
غالبا ما يتم التطرق الى ما ارتكبته الطبقات السياسية بحق العراق، من دون الالتفات الى دور (حصان طروادة) داخل هذا الميدان الحيوي (الاعلام) الى اصطبلات التدجين والاعداد الهائلة من سكراب العدة والعدد الذي اندفع لها لاسباب لا علاقة لها بحاجات ووظائف هذا النشاط الذي يعتمد العقل والضمير وروح الايثار. ان جريمة هذا الحطام من لصوص هذه المهنة، لا تقل فتكاً عن لصوص ومشعوذي السياسة والادارة والاقتصاد، ولن نجافي الموضوعية عندما نجدها اكثر فتكاً وضرراً؛ لأنها تنهض بمهمة ادامة مناخات الغيبوبة وروح الخنوع واليأس لدى المتلقي، عبر تزييف المعلومة وضخ الاكاذيب والاضاليل، تسحق امكانية تبلور وعي بالتحديات الواقعية ونوع المخاطر التي تتربص بهم. ان استمرار هذا الحال المزري لنا كعراقيين في شتى مجالات الحياة، لا يمكن فصله عما يحصل في هذا الحقل الحيوي من استسلام وتواطؤ، بفعل هيمنة ما يمكن أن نطلق عليه بـ “دغل الاعلام” على مفاصله ومواقعه الاساسية. هذه القوافل الشرهة من الدخلاء ستظل عائقا شديد الفعالية أمام كل محاولة جادة للاصلاح والتغيير…
جمال جصاني