يوسف عبود جويعد
قد تكون رواية (سُلَّم بازوزو) للروائي عامر حميو، دخلت عالم التحديث والتجريب في فن صناعة الرواية، بالرغم من أن ثيمة الحروب، وما عصف في البلاد من خراب وتدمير كانت ثيمة للعديد من الروايات، الا أن ما جاء به الروائي أمر مغاير من حيث التناول، وزاوية النظر، والأسلوب الذي إتخذه سياق فني لمبناه السردي، إضافة الى كونها من الثيمات والاحداث التي تعد من المسكوت عنها في حينها، لأنها متضمنة لأفكار لا تنسجم ونهج السلطة الحاكمة آنذاك ، حيث تدور أحداثها التي بدأت من حرب الثمان سنوات لتصل الى ما بعد التغيير عام 2003 ، وقبل أن نلج الاحداث التي يتضمنها هذا النص، علينا أن نمر على بنية العنونة التي تعتبر العتبة النصية الموازية للأحداث، وكما يشير الروائي في التنويه الذي سوف نمر به ونحن نتابع حركة السرد والذي يقول:
(يُعدُّ الإله بازوزو كبير الآلهة الشيطانية للعالم السفلي، في ميثلوجيا الديانة البابلية والآشورية، وهو المسؤول عن الرياح الجنوبية الغربية، حاملة العواصف والجراد في الشتاء، والجفاف والتصحر في الصيف.
وقد وجد المنقبون على ظهر تمثال الإله بازوزو هذه العبارة: « أنا بازوزو ابن حنبو ملك رواح الرياح الخبيثة التي تخرج عنيفة من الجبال وتفعل الخراب، هو أنا»
وبالرغم من أن هذا التنويه سيجعلنا نشحن الذاكرة ونستبق الأحداث واستنتاجها من خلال ذلك، بأن ما سوف يمر بنا من أحداث له صلة بالأساطير والحكايات الشعبية، الا أن ذلك لا يؤثر في سياق تفكيرنا، كون المستهل الأول يجعلنا نعيش الواقع ولا نرحل مع الاساطير، وأن هذا التنويه ما هو رمز كبير لأن الشيطان بازوزو يسكننا ولا زال يعبث بمقدراتنا وحياتنا ويحاول إزاحتنا عن جادة الصواب، الا أن المستهل الاول والذي هو الإهداء يشير الى معالم أحداث نص يغوص في واقع حياتنا:
( لجيل الشباب..إن هرموا: عسى أن يجلسوا يوماً على دكة قرب البئر، ويحكوا لأحفادهم صور سُلًّمات أخرى !.)
وحالة التعجب هذه هي الإشارة الواضحة التي ستفضي بنا الى معرفة حكاية السُلَّمات التي جعلها الروائي فصول مرقمة تبدأ من السُلَّم 34 لتنتهي بعد السُلَّمة رقم 1 بسُلمة حافة البئر من الأعلى، لنعود الى مدخل هذا النص لنجد الفصل الاول فيه يحمل عنوان (البئر)، وهكذا يتضح لنا أن مسار هذا النص هو دائري يبدأ من حيث انتهت الأحداث، ومن خلال بطل هذا النص برهان عساف يمهد لنا ولأبنه محمد ما سوف سيكون شكل ومضمون احداث هذا النص، لأننا سنلج بئر فيه هذا العدد من السلالم، وهو بئر حكاية الوطن وحكاية البطل، أنه بئر أبراهيم عساف الذي سوف ننزل معه سُلَّمة سُلَّمة، وفي كل سُلّمة دورة أحداث تعود للزمن الذي يعيشه البطل في تلك الحقبة، كما أنها أي السُلَّمة حسب الاحداث التي تتضمنها وموضوعها وثيمتها، حيث نجد منها من تأخذ حيز كبير من مساحة السرد، بينما نجد أخريات مختصريات كما في السُلمة رقم 30 فيها إشارة بسطر واحد تقول:
(صورٌ خلف باب بمزلاج صدئ يرفض التأريخ أن يُفتُحُ) وكذلك نجد هامش تعريفي لهذه السُلمة يقول:
(عادة ما يكون قرصان التأريخ هو الذي يرفض أن يصاغ التأريخ عكس ما يريد)
وكذلك السُلَّمة رقم 7
(وجد على الباب الجانبي المُغلق لهذه السلمة تحذير يقول:
(تقرر غلق باب هذه السلمة بالنظر لارتفاع الضغط الجوي في أعماقها، والذي قد يصيب الزائر لها بتريف العينين، والانف، والأذنين، مما يجعل الرؤية عنده مشوشة، وقد تنعدم نهائياً)
وتلك الفصول هي شكل من أشكال تكوين البنية النصية وحركة الأحداث واهميتها كوننا سنبحر مع الروائي في أحداث تبدأ من مرحلة طفولته مروراً بإشتراكه بحرب الثمان سنوات، وتفاصيل دقيقة ومهمة وفيه كشف من الاسرار في الفترة التي اشترك فيها في المعارك الدائرة، حيث نجد فرقة الاعدامات وهي تعدم ثلاثة جنود امام جمع من الجنود، وكذلك بعض فشل المعارك، ونعيش وسط تفاصيل دقيقة لا يمكن أن يعرفها الا من عاش تجاربها وخبر اسرارها، ونعيش العلاقة الطيبة مع هذه الرفقة التي غالباً ما تكون علاقة الصداقة حميمية وصادقة، فنكون مع صديقه أحمد الذي يلتحق معه بإستمرار الى جبهة القتال الا أنه تخلف عن الالتحاق بسبب رؤيته لبائعة القيمر الجميلة والتعلق بها، والذهاب معها وقضاء ليالي حمراء عاشها في بيتها، بعدها يعد هارباً وينفذ حكم الاعدام كونه هارباً من للخدمة العسكرية في زمن الحرب، وتلك العلاقة العاطفية التي نشأت بين برهان عساف وندى عندما التحق لوحدته في البصرة، وتكبر تلك العلاقة وتشتد، كما تشتد بقية الاحداث المرافقة لمسيرة السرد خلال سُلَّمات تنزل بنا نحو البئر:
(-سيدي. رائد علاء يطلبك شخصياً على الجهاز.
أغلق سماعة التلفون السلكي، وسمع المخابر كريم يوجز الرائد علاء عبر جهاز الارسال قائلاً:
-هلو صفر.. كيف تسمعني أجب.
- رد الرائد علاء بالتشفير هذه المرة:
- 23 صفر معك .. أسمعك جيد أجب.
قال المخابر يغافل الرائد علاء، ليسرق الوقت منه:
-صفر .. جاري إحضار طلبك..إنتظر
فأتاه الرد مؤنباً دون تشفير:
-(إبني حضر نقيب عباس بسرعة.. العدو قريب جداً مني ..أجب)ص 72
وهكذا نكون مع تفاصيل دقيقة وتفصيلية عميقة وشيقة ومؤثرة عن حياة الجيش ضباطاً وجنوداً في جبهات القتال وكيف يواجهون العدو، وما هي حياتهم وطقوسهم حتى في رمضان.
(التأم الجمع على مائدة اللإفطار بعد أن انتهى رزاق من صلاته وامتدت الأيدي تأخذ لقمها، وراحت الالسن تدعو: - ابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.
بعدها ننتقل انتقالات جديدة، عبر سلالم تنحدر نزولاً عبر تسلسلاتها نحو البئر، لنكتشف أحداث كبيرة، من التعسف والقمع والقسوة، اهمها قطع صيوان الاذن، واعدام شاعر، وتفاصيل اعدام احمد امام جمع من سكنة محافظة بابل (الحلة)والحافلة التي طمرت بمن فيها تحت الارض، وغيرها الكثير الذي سوف يكتشفه المتلقي وهو يتابع الاحداث.
وفي سلالم اخرى نمر على حرب الخليج الثانية، غزو الكويت وتفاصيل اخرى عن هذه الحرب، وفي سلمتين نمر على حكاية الحمار وحكاية الصرصار، والذي نجدها خارج السياق الفني لمبنى هذا النص، الا أننا نجد التبرير عندما يسأل محمد ابن برهان عساف عن تلك الحكايتين فيقول له فيها ربط كبير، وانها حكيت في زمنها وسيكتشف المتلقي ذلك.
كما نجد في اشتداد الاحداث وبلوغ الذروة اصابة برهان عساف وحضور ندى لزيارة الا أن الحافلة التي تقلها تنفجر ويموت من فيها، ولكننا في نهاية الرواية نكتشف أنها لازالت على قيد الحياة ليلتقيا معاً في احدى المظاهرات.
(ووسط ذاك الخراب رأى برهان العسافي وندى ثمة عجوز تجلس تحت ظل شجرة وارفة الظلال، وحولها يلتف جمع من الاطفال، ملامحهم خالية من أي تعبير، ينصتون لها بلهفة مبهورين، وعيونهم مشدوهة ترنو لسبابة يدها التي تشير بها نحو السماء.
رواية (سُلَّم بازوزو) للروائي عامر حميو، تقدم لنا روائي خبر فنونها وأجاد صناعتها، من خلال اللغة السردية المتصلة والايقاع المتزن لحركة المبنى السردي ومعرفته لاساليب فن كتابة الرواية الحديثة.