اسماعيل ابراهيم عبد
على نمط بين الحرية والتقيد يقع فعل المحتوى الشعري فنياً لـ سلم قديم تآكلت أضلاعه للشاعر صفاء ذياب، فهو يأخذ حريته كاملة في ترتيب لغته، ويقيد خياله وموضوعه بنوعين من الإرث، القِدَم البصري وحداثة الطين الرافديني لذا نرى أن فعله الشعري يمثل تجربة خاصة.
في النص الآتي سنهتدي إلى موحيات شعورية لا تخضع للضبط الدلالي المباشر، إنما يتم تفسيرها قراءة بموحيات خصوصيتها، لنتابع:
ـ سيرة
غالباً ما يُدَوِّنُ مذكراتهِ، لئلا ينسى أنَّهُ عاشَ
هذا ما يملكهُ الآخرونَ تجاههُ.
وكُلّ ما يحضرهُ الآنَ، أن يتذكَّرُ مذكراتِه التي زرعتها زوجتهُ على
رفاتِهِ حين نَسِيَ أنهُ ماتَ…
ما يشيعهُ الآخرونَ الآن أنَّ هناكَ رجلاً عاشَ في زمانِهم، يمهرُ يومهُ
على رُقَعِ جِلْدٍ ممزقةٍ.
بعدَ قَرنٍ آخرَ .. أشاعَ آخرونَ، أنَّهُ حُكِي لهم عن رجلٍ كانَ يمهرُ يومهُ
على رُقع جِلْدٍ ممزقةٍ ..
يحكي لنا التاريخُ عن آخرينَ سمعوا عن الآخرينَ، أنهُ كانَ هناكَ
رجلٌ غالباً ما ..
… مات
ما خصوصية قصيدة سيرة؟
وما الذي سنجليه بتقشير مكنونات قراءتها؟
أولاً: الظنون السردية
تتركب من سارد يضع نفسه راوياً ضمنياً يحكي لنا قصة مذكرات رجل لا يدري متى وكيف مات أو لا يدري مات أم لا! فلنسمه السارد المخاتل، باعتبارها أن النص قصة شعرية ـ افتراضاً!
ثانياً: الظنون الزمنية
أخذت هذه الظنون مراحل حكائية زمنية هي:
ـ مرحلة الحكي المباشر التي تؤشر الزمن الحاضر من أمثلة دواله:
(غالبا ما يدوّن مذكرات + ما يحضره الآن).
ـ مرحلة الحكي غير المباشر للزمن الماضي:
(ما يشيعهُ الآخرونَ الآن، أنَّ هناكَ رجلاً عاشَ في زمانِهم، يمهرُ يومهُ على رُقَعِ جِلْدٍ ممزقةٍ.).
ـ مرحلة الحكي النبوئي المضلل للزمنية، وهو وعي بأهمية معرفة وقيمة وبيئة الزمن الفلسفي، وأهم مميزاته التشكيك بالمعلومات، مثاله:
(بعدَ قَرنٍ آخرَ. أشاعَ آخرونَ،أنَّهُ حُكِي لهم عن رجلٍ كانَ يمهرُ يومهُ
على رُقع جِلْدٍ ممزقةٍ.).
ـ مرحلة زمن الوعي بفلسفة التسجيل وتعدُّ الزمنية الأقرب للخلود، مثاله:
(يحكي لنا التاريخُ عن آخرينَ سمعوا عن الآخرينَ، أنهُ كانَ هناكَ
رجلٌ غالباً ما …
… ماتَ).
إن الترابط بين الزمن والشخصية البطلة الراوية، والافعال الظنيِّة، سيؤدي بالقول نحو مستويين من إزاحات المعنى هما الشعر والسرد، وبدورهما يخلقان مشهداً يقع بين دراما القص ودراما الشعر المسرحي. وهو ما نظنه الغاية الشعرية الثانية للقصيدة أعلاه.
ثالثاً: مستويات ثيم
ان ما بين (الفني والثقافي) ثيمات استثنائية الوقع، استثنائية التداول، استثنائية المتعة.
لنأخذ مثالاً لا يحتاج كثير شرح لفهمه، يؤكد مضامين الاستثناءات:
[السماءُ التي انشقتْ
لمْ تكنْ سوى شفتي.
والارضٌ التي غِيْظَتْ
لمْ تكنْ سوى عيني
والجبالُ التي دُكَّتْ
لمْ تكنْ سوى أناملي …
…
… ـ سلم قديم تآكلت أضلاعه، ص 39]
ان الثيمات تركز على الصور الآتية:
ـ صورة السماء التي تشبه شفة المتعبين الزرقاء، ويراد بها العكس، أي أن التعب والجوع شقق فاه المتعبين حتى ازرقت وقتمت مثلما سماء تتخللها غيوم لا تمطر.
ـ والأرض التي تذكرها الكتب السماوية كونها أرض الطوفان قد يبست، ويعني أن طوفان الثروات أيبس شفاه الجائعين فبدوا مثل العطاشى الغرقى في ماء، غير مسموح لهم بشربه! ـ صورة الجبال المتهاوية في يوم القيامة التي تشبه عذاب العمل في دكه للأنامل، كأنما ليحطمها ويسحقها ,لا لشيء سوى أنها أنامل شمّاء كريمة مثل قمم الجبال.
رابعا: التقشير بالقراءة (2)
«ان القراءة هي عملية تقشير للمرآة كي ترى أبعد من وجهك… ولا تقف عند حدود الذاتي … هي عملية البناء المشهدي التي تجعل لكل حركة داخل المكون العام للمشهد… قصداً «(3)
التقشير إذاً فعل قرائي، والفعل القرائي متجه خطابي، وبالجمع بين مؤولات القراءة ومتون الرؤية نحصل على مشهد، لكل جزء فيه وظيفة.
وهنا يستوقفنا عمل الشاعر كونه خطاباً جاهزاً للقراءة، يستوقفنا لأنه خطاب شعري تهيمن عليه قوى محيطية تجعله بؤرة لما تزل باعثة على التصورات من (موحيات ، ظنون ، مؤولات ، حركات شبه سردية ، ديناميك دلالي لغوي) ومجمل هذه المتجهات تدفع نحو (البحث في الشفرات ، تحليل الثيمات ، ترتيب مستويات التأويل). ان عملية التقشير تصوغ، تكشف وتدل على ما هو ممكن بالقراءة، أو ما يمكن تنميته بالتأويل.
النص المتقدم يستجيب للفرائض العديدة التي سبق تأشير منطقها الفكري والفني، ومن الجانب التطبيقي يمكن التوغل بالمقطع أعلاه عبر مناول ديناميك اللغة المعوض عن فرائض كثيرة.
ففي لغة الشعر تعطى أهمية خاصة للحيوية الانفعالية على نحو حركة أفعال نامية من التجريد نحو التشفير أو العكس وهذا التنميط ديناميك لغة تدفع بالإزاحة الشعرية نحو مضمرات دلالية تبعث على المتعة الجمالية والثقافية.
(1) صفاء ذياب، سلم قديم تآكلت أضلاعه، شعر، اتحاد ادباء البصرة. 2017، ص31
(2) التقشير مصطلح استثمره ناجح المعموري في فهم الاسطورة
(3) د. حمد محمود الدوحي، سيمياء النص العراقي، الشؤون الثقافية العامة، الموسوعة الثقافية، بغداد، 2014، ص143، ص144