عبد السادة جبار
لا يهدف فقط لتقديم أفلام سينمائية بقدر اهتمامه الشديد بطرح أفكاره من خلال تلك الأعمال من دون النظر إلى السائد منها وكأنه يتحدى العقل والتصورات المسبقة، يطلق أفكاره المشاكسة بلغة سينمائية متقنة، وفلمه «البجعة السوداء Black Swan» بطولة ناتالي بورتمان العام 2010 كان واحداً من تلك الأفلام التي قدم فيها خلطة فكرية موسيقية سايكولوجية كانت مثيرة للاهتمام. آرنوفسكي لم يكن صانع أفلام فقط بل مقترحاً للأفكار، وقد جوبه فيلم «نوح» في العرض الخاص برفض كبير من قبل عدد من المتدينين، إذ يتعارض مضمونه مع حقيقة القصة، والتي لم تختلف عليها كل الديانات السماوية إلا في فيلم آرنوفسكي فقد كانت مختلفة، ويبدو أن عدم تقيد الرجل بالخط المعتاد، هو رغبة منه بإثارة الجدل والنقاش، ومن ثم إلى الانتشار، وهو ما حصل فعلاً، إذ حصد الفيلم مراكز متقدمة في المتابعة، ففي الأسبوع الأول من عرضه، تربع على رأس قائمة مبيعات شبابيك التذاكر الأميركية ليحصد 44 مليون دولار أميركي منذ بداية عرضه. في الواقع هذا التحدي يؤشر ثلاثة أسباب الأول هو الجهل الكامل من أولئك المتفرجين بقصة نبي الله نوح (ع) وذلك ليس غريباً، إذ صرح نجم الفيلم» راسل كرو « الذي يجسد شخصية النبي نوح، «انه لم يكن يعلم إن نوح كان نبياً عند المسلمين»، مؤكداً انه لم يقصد أن يستفز مشاعر أي جهة، والثاني هو قدرة السينما على تحريف القصص بما تجعل المتفرج منجذباً للأكاذيب التي يمكن أن تنطلي عبر الصورة المصنوعة بدقة، والثالث هو الفضول الذي يدفع البعض لمعرفة كل ما هو مختلف وسائد. لقد كان قرار منع عرض الفيلم بشكل عام في بعض الدول العربية والإسلامية رأياً صائباً، لكن عرضه على الأوساط الثقافية ومناقشته وإعطاء الرأي فيه أمر أكثر أهمية؛ لأن الفيلم سيصل فيما بعد عبر الأقراص الليزرية أو عبر القنوات الفضائية ولابد من التثقيف المسبق، وإذا كانت احتجاجات الأطراف الدينية على هذا النوع من الأفلام بسبب تشخيص الأنبياء أو بعض الشخصيات الدينية، فان هذا الفيلم ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ تعمد تغييراً جوهرياً للقصة الحقيقية التي اتفقت جميع الأديان عليها، ستيفن ويل، نائب الرئيس التنفيذي للاتحاد الأرثودوكسي قال عن الفيلم «إن أجندة هوليود هي أن تبيع أفلاماً وتجعلها جديرة بالإعجاب وليس بالضرورة أن تقنع بحقائق تاريخية أو بدقتها أو بقيم ثيولوجية». ارنوفسكي قال عن فيلمه إن قصة نوح هي أسطورة مثل أساطير اليونانيين القدماء، وان ما عرضه في فيلمه ليس سرداً حرفياً لما ورد في الكتب المقدسة وإنما تفسير للقصة يلاءم هذا العصر. وأضاف:»قصة نوح لا تحمل معاني دينية فقط إنها تتحدث عن نهاية العالم البيئي، وهي فكرة تشغلني وتشغل الكثيرين الآن خاصة في ظل الكوارث البيئية التي يشهدها هذا الكوكب في عصرنا الحالي، فالعالم يموت ونحن نموت داخله». إذ أن آرنوفسكي يعتقد إن نبي الله نوح (ع) هو أسطورة وبإمكانه إذاً أن يفسرها حسب ما يرى تماماً مثل أسطورة سيزيف او بروميثيوس أو هيراقلس ..ومن جانب آخر يرى فكرة الطوفان متوافقة مع مشكلة البيئة وليست قضية دينية.
سيناريو الفيلم
يبدأ الفيلم بقصة التفاحة والثعبان، إذ يتم نفي آدم وحواء إلى الأرض، ليخلفا قابيل وهابيل وسيث حيث يقتل قابيل هابيل ويستعمر الأرض ويهرب سيث مستنكراً الجريمة ويتناسل مورثاً لأولاده درس الحفاظ على الخير واستنكار أعمال ورثة قابيل من البشر، تصل الرسالة وريث سيث «نوح» ليعتزل البشر مع زوجته وأولاده الثلاثة « سام « و «حام « و «يافث»، يؤرقه الدمار الذي لحق بالأرض من ورثة قابيل ويتراءى له على الدوام حلم إنقاذ الأرض والحيوانات البريئة من البشر، يقابل جده المعتزل «متشولخ « يخبره بنبأ الطوفان الذي قدره الرب ليغرق ورثة قابيل وإن عليه تكليف إنقاذ الحيوانات وأسرته عبر سفينة «الفلك «التي سيبنيها ويساعده بعض الجن الذين مسخوا في الأرض على شكل حجر متحرك، في الطريق وفي أثناء مطاردة مجموعة من البشر ينقذ فتاة صغيرة «ايلا « لتنظم إلى العائلة، يزرع نوح بذوراً أعطاها له «متشولخ» لتتحول إلى غابة، ومن ثم يبدأ نوح وأولاده والجن ببناء «الفلك» من جذوعها وأغصانها وأليافها والسوائل التي تفرزها، يعد نوح أولاده باختيار زوجات لهم، غير انه يتراجع عندما يجد أن البشر تحولوا إلى وحوش يقتل بعضها البعض ويأكل لحمه، فيقرر قبول الحيوانات فقط، مما يثير الأمر حفيظة ابنه حام فيحاول أن يختار بنفسه زوجة له لكن نوح يرفض قبولها بعد أن يهاجم البشر يقودهم ملك شديد مجموعة نوح وتدور معارك ضارية بين الجن والمهاجمين في أثناء الهطول الشديد للأمطار وتفجر الأرض عن ينابيع الماء وتغرق بطوفان طاغٍ، يتمكن الملك وريث قابيل من النفاذ إلى الفلك ويحاول أن يتآمر مع حام لقتل نوح مستغلاً اختلافه مع أبيه، يتزوج سام ايلا من دون علم أبيه لتحمل منه مما يثير حفيظة نوح الذي يعتقد إن التعليم السماوي حذره من ذلك فيقرر عند ولادتها قتل الجنين، سام وايلا يبنيان زورقاً صغيراً ليهربا به لكن نوح يحرقه، تلد ايلا طفلتين تؤم ويحاول نوح قتلهما وهنا يتراجع في اللحظة الأخيرة طالباً المغفرة من الله، يحاول وريث قابيل أن يقتل نوح معتقداً إن حام سيساعده إلا أن حام يحمي أبيه بقتله، ينتهي الطوفان وتستقر الفلك على أرض خضراء وتبدأ الحيوانات حياتها الجديدة على الأرض، لكن حام يرحل ليختار طريقاً جديداً ويبارك نوح الحياة الجديدة لنشوء إنسان جديد يعمر الأرض من دون شرور.
المعالجة
في الواقع كان بإمكان آرنوفسكي أن يتناول موضوع السيناريو من دون الإشارة إلى الأسماء الصريحة أو يوحي إلى القصة الحقيقة ويدير تصوير الأحداث كما يرغب ليتجنب الاحتجاجات الدينية على الفيلم، لكن يبدو انه قد تعمد ذلك وكأنه يريد أن يفسح مجالاً للتصرف بتلك القصص حسب ما يعتقده، مخترقاً جدران التابوات واثقاً جداً من نجاح فيلمه بالاستعمال الذكي والمتقن للتقنيات السينمائية لتحقيق الإبهار التصويري في القص السينمائي، فالعناصر الأساسية التي اعتمدها في الفيلم على الأغلب كانت شكل الجن المتحجر، مشاهد المعارك المدهشة، بناء الفلك ودخول الحيوانات والطيور إليها، ومشاهد الطوفان المثيرة، في ظل تلك التقنيات لم يقدم شخصية نوح كبطل أسطوري أو صاحب معجزات حتى انه لايملك سلاحاً فتاكاً مميزاً كما نشاهد في بعض الأفلام الخرافية أو الأسطورية، على العكس كاد يقتل بيد وريث قابيل إلا أن حام أنقذه، وفي جانب آخر من شخصيته كان يرتكب أخطاء في اتخاذ قراراته منها تراجعه عن زواج حام وقراره الصعب بالتخلص من حفيدتيه من سام واختلافه مع زوجته وهجره لها. لم تكن -على الإطلاق- شخصية نوح في الفيلم هي النبي نوح (ع) التي نعرفها ولا الأبناء الذين نعرفهم أو الصحبة الصالحة الواردة في الكتب المقدسة بل هو نوح آخر يعرفه فقط « دارين آرنوفسكي «، شخص يريد إن ينقذ الطبيعة أو الأرض من عبث الطامعين والمخربين وإنقاذ المعذبين في الأرض.
فيلم»»NOAH، تمثيل : راسل كرو ،جينيفركونلي ،انتوني هوبكنز
تاليف واخراج :دارين ارنوفسكي