أفق الخطاب الفلسفي في كتاب “سور النور” لـ صلاح جلال

 غانم عمران المعموري

تعاطى العديد من الأدباء مع ثيمة الموت في تجاربهم انطلاقاً من الرؤية الوجودية التي ينظرون من خلالها للموت والحياة والوجود والعدم. ولعل الشاعر العراقي صلاح جلال أحد الشعراء الذين كتبوا بأسلوب فلسفي متأثر بمن سبقه من فلاسفة شعراء أو شعراء فلاسفة، وكان ذلك يتطلب منه جهداً كبيرا وخزينا معرفيا ولغة رصينة لكي يتماشوا مع هذا الفن الصعب بالإضافة إلى نهجهم الثوري وتمردهم على الواقع المزيّف. وبما أن نهج الثورة والدفاع عن المظلوم يستدعي التضحية بالنفس والموت من أجل العقيدة والهدف السامي في نصرة المظلومين، لذا جاءت قصائد الشاعر صلاح جلال في كتابه الموسوم ( سور النور ) الصادر من مطبعة( كوشكي سه را ) في السليمانية بطبعته الأولى لعام ٢٠٢٤ الذي تضمن قصائد تعتمد الفلسفة معيارا لها من خلال لغة رصينة تتسم بالتناص والمجاز والتشبيه والاستعارة. يتناول ثيمة الموت والحياة والوجود والعدم والظلم والاضطهاد.. ومن العتبات التي توَّج فيها عنْونة كتابه (سور النور ) والعتبات الأخرى نستطيع أن نُلاحق مقاصد الكاتب من خلال تلك العتبات والعناوين الفرعية للقصائد التالية( صور شذا الوجود، جليد الكلمات، محيط الحجر، محشر العشاق، شبابيك موصدة، كون الروح، ملوك النقشبندية، صور المحشر، سرطان الياقوت، مهرجان الروح، سيزيف الروح، فلسفة الكون، نخلة برتقالية للراحل الموجود إبراهيم الخياط).. ومن خلال تلك العتبات الفرعية يتبين بأن الكاتب اتخذ عناصر جوهرية ذات دلالات فلسفية تُحاكي الوجدان والذات الإنسانية والبلاغة طريقاً للبناء الفني للقصيدة،  ودخول عالم النور والعرفان وفلسفة الموت، حيث وردت مفردة الموت في العديد من قصائده كما في ( قصيدة إعصار/… متى تتفتح أبواب الكون(…)؟ لأذابُ في فلسفة الموت متى تنفخ أبواب الكون؟ لألعبُ بكرةِ الفلسفة سأُسجل هدفين على الحياة وهدفاً على الموت ( …)..ص ١٠ من كتاب سور النور استطاع الكاتب من خلال البحث فيما وراء الوجود والعدم والموت والحياة بأسلوب فلسفي متأثراً بفلسفة هيدجر وديكارت ونيوتن وفوكو، وغيرهم من الفلاسفة. وحبه لهذا المجال جعله ينهل من خزينه المعرفي والنفوذ إلى المعارف وجواهر اللغة والبلاغة لإخراج ما يُناسب منها لصياغة صور شعريّة مكثفة وذات دلالات فلسفية ونفسية، وهي صعبة الفهم على القارئ العادي، وتحتاج قارئا فطنا، يقرأ ما بين السطور، وإن يرجع إلى البحث والتحري لمعرفة مقاصد الكلمات التي ترد في القصيدة .. تمرد الشاعر على الشكلية الكلاسيكية من خلال البناء الجديد والمغاير في معمارية القصيدة فقد استخدم التنقيط والأقواس وعلامات الاستفهام وعلامة التعجب وغيرها، متخذاً من المغايرة والتجريب طريقة لنسج صوره الشعرية التي تتضمن التضاد، التناظر والاختلاف والتحري ما وراء اللغة .. لذلك نجد قصائده معبأة بالفكر الثوري والهيجان المنبعث من أعماق روحه الصادقة، كما في ( أفكر في اقصائيات الاختصارات المعجونة(…) في جدليات التفلسف !! للانغمارُ في الحفريات والسقوط !! حول الأصل والكينونة والوجود (..) من أين؟ من هناك؟ من أنتم وأنتن؟ ) … ص١٥ من كتاب سور النور، استطاع الشاعر من خلال الأسلوب الدرامي المشهدي أن يُجسد الكلمات للقارئ وكأنه يراها من خلال الترابط والانسجام حيث أن ( الصورة الشعرية في قصيدة ما تشبه سلسلة من المرايا موضوعة في زوايا مختلفة بحيث تعكس الموضوع وهو يتطور في أوجه مختلفة، ولكنها لا تعكس الموضوع بل تعطيه الحياة والشكل، ففي مقدورها أن تجعل الروح مرئية للعيان)٣.. ولعل الشاعر يحاول من خلال رسمه الصورة الشعرية الثورية والنفسية والاجتماعية أن يدخل إلى أعماق روح المتلقي ليترك في نفسه أثرا ويحرك القابع في نفسه .. كما أنه تمكن من أنسنة الأشياء حيث ( ترتفع فيها الأشياء إلى مرتبة الإنسان مستعيرة صفاته ومشاعره)٤.. كما في قصيدته( سور النور: سور تتلاطم في أجنحة المخيال(…) انعكست مسامير مسمومة في لوحة الشعور لقد استوطن كوكب السمطيقة تحفر في دفاتر طينية للأزمان، هناك أرض تتجذر بدماء الكلام، تلتصق الشرايين ببذور الرؤيا اخضوضرت شجرة في محيط الحوار تسقط نجما من أشعة الهمسة(…)..ص ٢١ من الكتاب سور النور.. كما أن الشاعر لجأ إلى التناص، وهو من أهم سمات الخطاب الشعري الحديث، فمن خلال التناص يستطيع الشاعر مد جسور بين الماضي والحاضر وبين ما هو مخزون في ذاكرة المتلقي وما هو جديد ( عند النقاد العرب يعرّف التناص وجود علاقة بين ملفوظتين وقد يتجاوز ذلك ليشمل النص الأدبي في جميع نواحيه فهو يحيل النص إلى مدلولات خطابية متغيرة بشكل يمكن معه قراءة خطابات عديدة  داخل القول الشعري )٥..  وقد اتخذ الشاعر من قضية الحسين ع نهجاً ثوريّاً من خلال خطابه الشعري ذي الدلالات الفلسفية كما في ( عندما ينظر إلى الأشعة المنبعثة من رأس الحسين دجلة والفرات ملوحان باعتصام الدم المحتضر ويؤجج على الوجود عطش الحسين وتتسلق الحشرات الزجاجية في سيف المهدي، وتنتشر عروش الأجيال في كهوف الفوتونية تتوضأ أنوار الزهراء في جدران الكلام ( )..ص٢٣.. من كتاب سور النور. تتسم قصائد الشاعر بنظرة شمولية والخروج من المألوف والبحث فيما وراء الموت والحياة بلغةٍ مكثفةٍ وبأسلوب فلسفي وخطاب ثوري شعري، كما واتسمت قصائده بالمغايرة والتجريب .. تحتاج قصائد الأديب جلال صلاح إلى دراسة طويلة للإلمام بكل ما تتضمنه من دُرر مكنونة.   المصادر:

– لويس سي دي ( ١٩٨٢) الصورة الشعرية، ترجمة نصيف الجبابي، مالك صبري، بغداد، دار الرشيد، ص٩٠- ٩١. ٢- عبد نور، جبور، ١٩٧٩، المعجم الأدبي/ بيروت، دار العلم للملايين، ص٦٧. ٣- حافظ صبري( ١٩٩٧) أفق الخطاب النقدي، ط١، القاهرة، دار شرقيات، ص١٣١.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة