علوان السلمان
النص السردي مجموعة من المستويات الفنية التي تتراكب عضويا لتنتج لحظات مشهدية محركة للذاكرة وموقظة لمكامن الشعور وكاشفة عن التوترات السايكولوجية بتوظيف لغة ترتبط بمرجعيات المنتج(السارد) الفكرية والعوامل الذاتية والموضوعية التي تسهم في تشكيل تجربته وتترجم تصوراته وأحاسيسه..
وباستحضار المجموعة القصصية(مفارقات لا تقبل التأويل)التي هندست عوالمها السردية القصيرة جدا انامل منتجها القاص موشي بولص, وأسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق على نشرها وانتشارها/2023.. كونها نصوص تتشكل وفق تصميم يكشف عن اشتغال عميق يعتمد التقاط الجزئيات وصياغة رؤيوية ترقى من المحسوس الى الذهني, وهي تتكئ على مقولة النفري الصوفي(كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا)ابتداء من العنوان الدلالة السيميائية الكاشفة عن مضامينها ومجمل تحركاتها الدرامية ودلالاتها اللفظية..
(دعي وأسرته الى مأدبة غداء في مطعم فاخر..لفت نظره طبق زيتون شهي..حاول مرات بالشوكة التقاط زيتونة ولم يفلح ونجح حفيده في اقتناصها بغرسة واحدة فهمس في اذنه وقال له: بفضلي اصطدتها بعد أن أرهقتها بالملاحقة ) ص33
(تقاطعت أفكارنا في مسائل جمة.. فاحتدم الجدال بشأنها، لم يلطف الأجواء سوى وضعية هر جاثم بقربنا يتطلع في وجوهنا باندهاش…)ص34
فالمنتج(السارد) يركز على العناصر الشعورية والنفسية الخالقة لجدلية(الذات والموضوع) مع تجاوز المألوف والانطلاق في فضاء الوجود والطبيعة وصولا الى اللحظة الانفعالية المولدة للوظيفة الجمالية المتمثلة في الادهاشية المفاجئة, ليكون خطابه محققا لوظيفته الانفعالية من خلال استفزاز الذاكرة وتحريك خزينها..
(لم يحلق رأسه كما رغب بحجة أن بقع الصلع سوف تبدو واضحة للعيان..بينما هو في الواقع كان يهدف من وراء ذلك بجعله زبونا دائما لديه ليواصل مسلسل تفريغ الجيب..) ص62
فالمنتج يستخدم الطاقات الحسية والصوتية والعقلية عبر بناء يفجر اللغة باستثمار خصائصها بوصفها مادة بنائية لصور ايحائية تتكئ على الايجاز وإثارة الخيال بتوظيف المجاز المعبر عن لحظة التوهج، مع نهاية اسلوبية خاطفة..مدهشة متعالقة والعتبة الاستهلالية ونتيجة لها, لأنها تبلور الرؤيا السردية المعبرة عن الذات الانساني فتعكس القيمة الحقة للروح الانسانية وما يختمر بين طيات فكرها بقدرة تعبيرية متكئة على رمزية تكتنزها البنية النصية المختزلة لها باعتماد الجملة الموحية والألفاظ البعيدة عن الضبابية المتميزة بالتكثيف اللغوي ودقة السرد النصي وصولا الى اللحظة الانفعالية المولدة للوظيفة الادهاشية المفاجئة..
(منذ فترة وهو يضيء وينطفئ بين حين وآخر محذرا أن عمره الافتراضي على وشك أن ينتهي، لم أعر للأمر بالا حتى انفجر بوجهي وأنا في عز خلوتي..محدثا دويا افزعني حقا..لقد صفعني صفعة لتجاهلي تحذيره..) ص105
فالمنتج يترجم أحاسيسه وانفعالاته الداخلية بإبداع رؤيوي عميق بتوظيف تقنيات فنية محركة للنص يأتي في مقدمتها الرمز السمة الاسلوبية التي تسهم في الارتقاء بعوالم النص وتعميق دلالاته, واسلوب الاستفهام الباحث عن الجواب لتوسيع مديات النص والتنقيط(النص الصامت)..الذي يستدعي المتلقي للإسهام في بناء النص, والتكرار الظاهرة الصوتية التي تحتضن دلالة نفسية وعاطفية خارج الذات لتحقيق التوازن واضفاء موسقة على جسد النص تخفف من حدة المأساة والتعبير عن الحالة القلقة التي يعانيها السارد(أصبح البحث عن نزيه كالبحث عن إبرة في كومة قش) ص107.. فضلا عن أنسنته الجمادات واعتماده المتناقضات (يضىء وينطفىء) . و(فرقتنا الحياة ونحن أحياء، وجمعتنا المقبرة مشكورة ونحن أموات) ص111.. المعبرة عن الحالة النفسية المأزومة زمانيا ومكانيا مع تعدد ظلال الرؤية..
(قبيل انتصاف الليل بقليل وددت القاء نظرة على الصمت الرهيب الذي يخيم على أجواء الحي.. فلمحت شيئا دائريا مرقطا مركونا بالقرب من بيت جاري عندما بدا لي أنها كرة تعود لصبيته، عندما تقدمت لالتقاطها وإعادتها إليها بخت بوجهي بخا، إذ بها قطة متأهبة للانقضاض على فأر مذعور ولج جحرا غير مأمون..) ص37..
فالنص شكل من أشكال الانزياح السردي الناجم عن موقف انفعالي يباغت المستهلك(المتلقي) بصوره التي تكشف عن عمق دلالي لأنها تجعل من اللغة فكرا والمرئي تخيلا, بتشكلها من الفكرة لا من اللغة باعتماد التكثيف والايجاز والاختزال الجملي والايحاء اللفظي, وهذا يعني أنها تأسيس قائم على الاضاءة اللحظوية المعبرة عن لحظة شعورية مكتنزة بإضاءتها ومنسجمة باختزالها وايجازها الدال على حقلها الدلالي فكريا ووجدانيا بمواءمتها للعصر بأسلوب حداثوي يشير الى زخم من التكثيف الاسلوبي والفني لتحقيق تأثيرها عبر عنصر الاضاءة السريعة للحظة المستفزة للذاكرة بما تحمله من معنى ايحائي جاذب لا طارد لمتلقيه..
وبذلك قدم السارد نصوصا سردية تستنطق اللحظة الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد حقول تسهم في اتساع الفضاء الدلالي للجملة السردية باستيعابها لمعطيات النص القصير جدا(الومضة) وثرائها العميق في الاختزال والتكثيف والقدرة على الادهاش والخلق الفني باختصار اللحظة الحالمة عبر زمكانية وتركيز واقتصاد في الألفاظ المكتنزة بالرؤى والمعاني.