لافتات معلقة في واجهات بيوت سكنية ضيقة ومحال تجارية تحسب بالاشبار تتخللها ازقة في غاية الضيق خط عليها كلمة .. للبيع او الايجار .. وكأن هذه الاماكن ملكا صرفا ورثوها بسندات نظامية وقانونية ، وما هي الا اماكن استولوا عليها بالقوة او بالاكراه نتيجة اوضاع معينة او تغيرات سياسية ، فهي اصلا مقامة بلا تخطيط أو نظام خارج نطاق خطط التنمية السكّانيّة للحكومة وهي تفتقر إلى الخدمات الأساسيّة التي غالبا ما يتم توفير البعض منها قسرا او بالتهديد بعيدا عن القانون .
قال سائق سيارة الاجرة الذي اقلني الى منطقة تتواجد فيها احدى العشوائيات “ مع الاسف ان تكون عشوائية في هذه المنطقة الهادئة الجميلة .. اين هي الدولة من هذه الظاهرة غير الحضارية ، وكأنما يتقدم بلدنا الى الوراء “ .
كان لهذه الكلمات طنين في اذني ايقظتني من سبات عميق او حلم بعيد لم اتبين معالمه او مغزاه ، ان أزمة العشوائيات السكنية وتداعياتها الخطيرة علي المجتمع برمته تعاضمت خلال العقود الماضية ، فقد أصبحت من القضايا الملحة والخطيرة التي تحتاج إلى مواجهة شاملة للحد من إنتشارها ومعالجة آثارها السلبية.
هنا تكمن المسؤلية الإجتماعية للصحافة من خلال مجموعة من المهام التي يجب أن تلتزم بتأديتها أمام المجتمع في مختلف المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية بشرط أن يتوافر لها حرية حقيقية تجعلها مسؤلة أمام العقل والمنطق والمجتمع ومصلحته العليا.
وما يرجى من الصحافة في هذا الإطار هو أقل بكثير مما هو قائم ، اذ أن إمكانيات الصحافة بحكم خصائصها وسماتها تتيح لها كوسيلة إعلامية جماهيرية أن تقدم أكثر وتؤدي أفضل وتحقق لمجتمعها وتشارك مع الجماهير مسيرة التنمية والتقدم والتحديث ، فهي لم تحظ بضرورة الاهتمام والنظر بعين الانسانية الي سكان هذه المناطق باعتبارهم مواطنين لهم حقوق المواطنة ومن ناحية أخري تشجيع الباحثين علي عمل دراسات متعددة عن العشوائيات وتقديم الحلول المنطقية من أجل الحد من هذه الظاهرة والقضاء عليها تماما والارتقاء بمجتمعاتنا الي مستقبل أفضل.
فقد كشفت بعض الاحصائيات والدراسات أن عدد المواطنين الذين يعيشون في العشوائيات ببلدنا يقدر بأكثر من 7 ملايين مواطن، بعد أن كان 3 ملايين ونصف المليون سنة 2016 في آخر إحصائية لوزارة التخطيط وهي تعد كارثة سكانية بحد ذاتها وتتنامى بشكل متسارع، منذرة بالاتساع سنة بعد أخرى.
اعيد الى الاذهان ان هذه المشكلة ليست جديدة في العراق، فقد تفاقمت إبان العهد الملكي، الذي أنهاه انقلاب تموز 1958 مؤسساً العهد الجمهوري، الذي وضع معالجات ارتجالية للمشكلة دفعت العاصمة بغداد ثمنها الأكبر. لكن تلك المعالجات، على سوئها، نجحت في الحد من هذه المشكلة وتحجيمها، غير أن عشوائيات ما بعد سنة 2003 لا تشبه تلك الأولى، لأنها أكبر حجماً وأكثر تناثراً من سابقاتها.
ارتبط ملف السكن في المناطق العشوائية إثر الإطاحة بالنظام السابق بالفوضى وانهيار المؤسسات الحكومية وتصدع هيبة الدولة، ما سمح للملايين من الأسر الفقيرة بالتجاوز على الأراضي المتروكة والمؤسسات والدوائر الحكومية التي دمرت واحرقت من قبل القوات الاميركية .
وتشكل قضية العشوائيات معضلة من تداعياتها الفقر والمرض وانعدام الخدمات، بل وانعدام شروط الحياة. ولكي تعرف الحجم المتزايد للعشوائيات في بلاد الرافدين، عليك أن تعلم أن معدل السرقات الحكومية -الفساد السياسي وما يتفرع عنه من ضروب النهب المالي والخراب الإداري- في حالة صعود. إنه الجوع النفسي الشبيه بالوباء الذي يسكن نفوس الغزاة الذين أوصلوا العراق إلى الهاوية وجعلوه دولة متهاوية.
واتفق مؤرخون وباحثون ومسؤولون سابقون على أن أسباب نشوء العشوائيات تعود إلى تساهل السلطات في محاسبة المخالفين والمتجاوزين بحجة حقوق الإنسان، أيضا الفقر والعوز والبطالة التي دفعت سكان الريف إلى الهجرة للمدن حيث لم يجدوا سكنا يؤويهم، والأهم من ذلك كله ضعف تطبيق الدولة للقانون بخاصة بعد الاحتلال لافتين إلى أن مخاطر العشوائيات لا حدود لها.
نحن ما نزال بانتظار اقرار القانون الخاص بمعالجة العشوائيات ، لما يتضمنه من حلول جذرية وشاملة وهو ينص على محورين. الاول الحد من انتشار العشوائية والثاني وضع مجموعة من الاليات والاجراءات وفقاً لطبيعة كل عشوائية، إذ ستقوم الوزارة بمسح اقتصادي واجتماعي شامل للعشوائيات. بغية الوقوف على طبيعة بنائها وتنظيمها .. اللهم آمين .
سامي حسن