كه يلان محمد
توجدُ علاقة جدلية بين الإنسان وما يخترعه من الوسائل المتنوعة بغرض تحسين مستوى الحياة ومواجهة التحديات، وانعتاق من قيد الأطوار البدائية والانطلاق نحو أفقٍ أوسع عندما ظهرت لغة الرموز والاشارات كانت الغاية منها إيجاد قناة للتواصل ولو بشكلها البدائي بين مجموعات بشرية كما خاطبَ الإنسان من خلال تلك اللغة القوى الغيبية، وأعرب عن مخاوفه وهواجسه من المجهول، ومن ثُمَّ تطورت أشكال التعبير.
وبالمُقابل دخل الوعي البشري إلى طورٍ أكثر رُقياً وذلك بفضل الترابط الوثيق بين الوعي واللغة، ويعتقدُ الفيلسوف الفرنسي جان بوديار أن التفكير ليس إلا تسمية لما نفكر فيه ما يعني توقف النشاط التفكيري من دون القدرة على العملية التسمية بواسطة اللغة.
ومن المعلوم أنَّ الاكتشافات التي أُنجزت على المستوى الصناعي وتزايد فرص انتشار الكتب والمَطبوعات فتحت الباب على مصراعيه بوجه التطور العقلي وخروج الإنسان من عهد وصاية سلطة الأكليروس، إذ يرى جمعُ من الباحثين أنَّ الإصلاح الديني في أوروبا ماكان ينجح لولا وجود آلة الطباعة، هذا عدا عن دور الصحافة في نهوض بالحياة الثقافية والاقتصادية وتبادل التأثير بين المدن والبلدان على مستويات مُختلفة.
كل ذلك يبينُ تأثيرات عميقة للمخترعات الصناعية على أنماط الحياة ومصائر الإنسان، ومع العصر التكنولوجي والمعطيات الحديثة تشهدُ المُجتمعات قفزةً على صعيد التواصل وقهر الحواجز الجغرافية، فبالتالي فإن حركة السلع والأفكار بين قارات العالم لاتتقيدُ بما عُين على الخرائط من الحدود بين الدول، لأن العالم في الزمن المعلوماتي أصبح قرية كونية على حد تعبير الكندي مارشال ماكلوهان.
عالم بديل
شأن كل مخترع جديد كان يحومُ الشك والريبة حول الشبكة العنكبوتية، لاسيما بعد تنامي عدد مُستخدميها في أرجاء المعمورة، حيث دارت التساؤلات عن مستقبل المجتمعات التي وقفت على عتبة عصر الحداثة ولم تتخلص بعد من ترسبات الأفكار المضادة لتيار التحديث والتنمية والحال كذلك.
كيف يمكن أن تستجيب لِمُتطلبات المنظومة الجديدة زيادة على ذلك فإن البعض قد أُصيب برهاب التمزق الهوياتي نتيجة التهام العولمة للثقافات المحلية وغلبة ثقافة الطرف المُهيمن.
طبعاً أن الجدل والنقاشات بهذا الشأن لم تقف في حدود المجتمعات التي سميت بالنامية، بل أبدت النخب الثقافية في الغرب أيضاً عن مخاوفها من ذوبان رأسمالها الفكري والثقافي في بوتقة ما عرفت بموجة أمركة، ومن ثُمَّ تناول علماء الاجتماع تداعيات ما يتداول في البيئة الافتراضية على سلوك الفرد وتساءلوا عن المصادر التي تُشكل بعده الثقافي في ظل أتمتة الحياة.
حيث ذهب أكثر التوقعات سوداويةً إلى انتهاء عصر الكتب والصحف وكل ما يعتمدُ عليه المرءُ في مجال المعرفة والتعويض عنها بالشاشة والكمبيوتر والمواقع الالكترونية.
وفي هذا الإطار روجت للثقافة الالكترونية، ربما بدت هذه الآراء أكثر صواباً بعد إنشاء مواقع التواصل الاجتماعي وارتياد الملايين نحو هذه البيئة الافتراضية وامتلائها بحكايات وأخبار وصور ما شكل عالماً طافحاً بعناصر التشويق والإغراء، خصوصاً إذا أضفت إليه أهمَّ ما يمتازُ به وهو غياب الرقابة.
إذ عللَّ المراقبون إغلاق الصحف العريقة أو تقليص عدد صفحاتها وصرف عددٍ من عامليها وعزوف الشباب والجيل الواعد عن معارض الكُتب والتظاهرات الثقافية بتفاقم حالة الإدمان بـ»النت» وبالأخص فيسبوك وحيطانه الزرقاء، والإبحار في أمواجه المُتلاطمة من المرويات المتنوعة وبذلك تمُحى الخطوط الفاصلة بين النُخبة والعامة. لكن ما ذكرناه سالفاً هو وجه من العملة وتظلُ القراءة مبتسرةً من دون البحث عن وجها الثاني.
ما خفي عن المُتابعين الذين يروجون للجانب السلبي أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً كبيراً في خلق فرص التقارب بين المُثقفين، بل هناك مدونات ومواقع تعملُ لتوعية الجماهير ونشر ثقافة التسامح مقابل تلك الجهات التي تستفيد لبث الكراهية والأفكار المُتطرفة، إذاً فإن هذه المعطيات التكنولوجية هي محايدة تبرزُ إيجابيتها أو سلبيتها وفقاً للعقلية المُسْتَخْدِمة.
ما يجبٌ الالتفات إليه ونحن بصدد الحديث عن العالم الافتراضي هو إنشاء الصفحات التي تروج للكُتب إضافة إلى استفادة دور النشر لتسويق مطبوعاتها عبر البيع الالكتروني، إذ وجدت في ذلك سوقاً موازياً يلبي رغبات القراء بطريقة أسرع إلى جانب ذلك بادرت الطاقات الشبابية لفتح منافذ على شبكة التواصل لعرض الكتب وبهذا ظهر ما يجوز تسميته بمعرض الكتب في النت.
ومن يتصفح تلك المواقع يجدُ عناوين متعددة من الأدب إلى المواضيع العلمية والدينية والفلسفية والتاريخية، ولفهم آلية عملها وهدفها تحاورنا مع من يديرون هذه المكتبات الالكترونية.
يقول صاحب مكتب ميزوبوتاميا في شارع المتنبي، أكرم القيسي: «استفدت كثيرا من مواقع التواصل الاجتماعي لترويج العناوين وبيع الكتب أعرضها على صفحتي»
وأشار صاحب صفحة «زاجل» الكتب محمد ياسين، إلى الكتب أكثر مبيعا في الثلاثة أشهر الأخيرة منها «الرسائل» لدوستويفسكي و»موسم صيد الغزلان» لأحمد مراد و»ساعة بغداد» لشهد الراوي.
يُذكر أن ياسين يطلب من زبائنه إرسال صور الكتب المرسلة وهي في متناول زبائنه إذ يعرضها على الصفحة مع اسم الزبون.
يقول مدير صفحة دار ومكتبة قناديل كرار الكعبي «ان للنت دوراً كبيراً في إيصال الكتب إلى القارئ بعدما ننشر موجزاً عن مضمون العناوين المتوافرة لدينا»…
غير أنَّ ما يشدُ الانتباه أكثر، تجربة صاحب موقع «درابين الكتب»، إذ يوضح علي سبب اختيار هذه العبارة كونها عامية وقريبة لإحساس المتلقي.
ويردف «ان الكتب تفتح لك دروبا كثيرة وتخيرك بين خيارات متعددة. ومع انطلاقة الموقع قررنا إقصاء المطبوعات التي تروج للدجل والأبراج من صفحتنا، ويهمنا عرض العناوين التي تنمي الثقافة التنويرية لدى القارئ مثل كتب هاشم صالح، وجورج طرابيشي». تجدر الإشارة إلى أن الجهود الشبابية في توظيف النت لترويج الكتب تجعلنا أكثر تفاؤلاً بمستقبل القراءة والثقافة.
ونقولُ مع إمبرتو إيكو إن المخاوف بشأن انقراض وانتهاء الكتاب الورقي في عصر النت ما هي إلا مثال على خوف الإنسان الأبدي بانتهاء شيء ثمين ليس أكثر.