بهاء الدين محمد عثمان
في محاضرة ألقاها عام 1931 بعنوان «راهنية الفلسفة»، أكّد ثيودور أدورنو على أهمية الفلسفة ودورها النقدي، معتبراً أن واجب «كل فلسفة اليوم ليس في دعم الحاضر وتثبيت الوضع الراهن للفكر والمجتمع»، وفي هذه المحاضرة أيضًا سينتقد كل «فكر مجتثّ»، يطمح إلى «إمكانية بلوغ الحقيقة في كليتها اعتمادًا على قوة الفكر فقط. يقودنا تصوّر أدورنو عن الفلسفة ودورها إلى التفكير في موقع الفلسفة نفسها من العالم ومن حركة المجتمع والسلطة، وأيضًا إلى التفكير في علاقتها مع السياقات الاجتماعية والإنسانية الأخرى. ومقتفياً خطى أدورنو، سينبّهنا ميشيل فوكو في محاضرته الشهيرة «ما التنوير؟» إلى أن جواب كانط على هذا السؤال يفتح إمكانات أخرى غير تلك المعهودة، ليصبح سؤال التنوير، حسب تأويل فوكو لكانط، هو سؤال الحاضر أو الآنية ولتكمن مهمة الفلسفة في نقد هذه الآنية.
يتمتع هذا التصوّر عن الفلسفة ودورها بأهمية كبيرة بالنسبة لسياقنا العربي، فلا يمكن لأي عملية تفلسف اليوم في واقعنا أن تشيح بوجهها عن الراهن المتألم والصيرورة المشوهة للمجتمعات العربية، بل وينبغي التشكيك في كل تفكير أو فلسفة لن تتحدث عن إكراهات هذا الواقع والبنى الاجتماعية والثقافية المنتجة له وكل فلسفة بهذا المعنى، تبقى محافظة، بل ومستقيلة، ولن تفعل أكثر من تأبيد تأخرنا التاريخي ومعه السلطوية. فما أحوجنا اليوم إلى النقد الذي يلفت انتباهنا إلى ما هو حي وما هو ميت فينا؛ ذلك النقد الذي سيتحدث عنه نيتشه باعتباره منحازًا للحياة وللآنية ولما هو ضروري لنا.
لقد شرعت أغلب المدونات الفلسفية العربية في عمليات نقد كبيرة، ومن زوايا مختلفة، يمكن حصرها في «نقد العقل» أو نقد التراث الثقافي للعقل العربي والإسلامي، وعلى الرغم من إنجازاتها إلا أنها ابتعدت برأيي عن سؤال المجتمع، إن لم تكن ربطته أحياناً بأسئلة مفارقة، مغفلة «نقد الآنية». لقد غرق نقد العقل، بصيغه الأيديولوجية المختلفة، في معارك الماضي، ظناً منه أنه يخوض معارك الحاضر. وهنا تكمن ضرورة انفتاح الفلسفة على العلوم الاجتماعية، وهو ما لم تقم به الفلسفة العربية المعاصرة إلا في ما ندر.
إن فلسفة تحاول الإحاطة بالحقيقة في كليتها من خلال الفكر وحده، لن تتمكن من تشخيص هذا الحاضر والباثولوجيات التي تعصف به، بل هي ستبتعد عنه أكثر فأكثر. إن ذلك، لا ريب، مصير كل فلسفة عربية تدور في فلك العقل ونقده دون النظر إلى المجتمع، فبقدر ما ستحاول تحريرنا من سلطة التراث بقدر ما ستسجننا فيه وتؤبد سلطته علينا كما أوضح عبد الله العروي في «العرب والفكر التاريخي»، لأنها ستتجاهل تلك البنى الاجتماعية والسياسية التي تنتج وتعيد إنتاج هذه الثقافة وأمراضها، لذلك علينا الانتباه والإصغاء إلى نداء أدورنو وهو يدعو الفلسفة إلى الاهتداء بالعلوم الأخرى ويقصد بذلك التاريخ وعلم الاجتماع خصوصاً.