حوار «2 ـ 2»
عدنان حسين أحمد
• في لوحتك ثمة معمار لوني، وهندسة إيقاعية تبدو وكأنها نابعة من السقوط في مدارات الوجد الصوفي الناجم عن التمثل، والدربة، وإطالة النظر. هل لك أن تتحدث لنا عن هذا المعمار اللوني المموسق الذي تؤسسه بعيداً عن الانثيالات العفوية التي تنبثق عن بعض المصادفات اللحظوية العابرة؟
- المعمار عامل جوهري في اكثر من العمل الفني. انه روح العصر الحديث ومن دون التعاطي مع إسقاطاته لا يمكن للكائن المعاصر التعبير عن عصره. ويسهل إدراك المعمار سواء أكان بصرياً ـ لونياً أم شكلاً مجسداً أو ببعدين المعبر الوحيد لإدراك الظاهرة البصرية المعاصرة. وبالنسبة لي كان المعمار اكتشافاً متأخراً نسبياً بسبب قلة إطلالي على مصادره وفلسفته المعاصرة. ولكن في اللحظة التي أتيح لي التمتع بقيمة المنجز المعماري شعرت بتحرر لا مثيل له. اصبح بوسعي إمساك الحجوم، وتدويرها، وتخيل المنجز البصري بعمق ولكن بمتعة فائقة. ويعني المعمار لي اكثر من هندسة اللون فبمراعاته تمكنت من استيعاب البعد المركب والمتحول للأشياء التي نراها. من الناحية الرياضية تؤمن الرؤية المعمارية رصد الأبعاد الثلاثة للأشياء ولكن بصرياً يلج الفنان إلى بعد رابع، بعد حسي يلبي الهاجس الإنساني ويتصالح معه. العمل الموسيقى الحديث كان أحد منابع الوعي بالمعمار لأنه يعطي مثالاً حسياً وملموساً عن الظاهرة الانفعالية ومصادرها الخارجية. الموسيقى التجريدية والنموذج ممتاز على الربط بين ما هو مجسد وما هو حسي ولذلك يقال إنها اقرب الفنون إلى التشكيل.
- يعوّل مشروعك الفني الشكلي في جزء كبير من محاوره ومنطلقاته الأساسية على فن الزخرفة، بعيداً عن الجوانب الثابتة والمتكررة التي توحي بالتحجر ضمن أطر وقوالب محددة، ما هي المحفزات التي دفعتك لخوض هذه المغامرة غير مأمونة العواقب؟ وما هي الآفاق التي تكشفت عنها هذه التجربة التي تنطوي على شجاعة غير مسبوقة في الوقت ذاته؟
- إذا ما بنينا على الأطروحات التي سبق وتحدثت عنها يمكن للزخرفة أن تكون أحد المصادر التشكيلية الكبرى للفنان العربي والإسلامي شرط أن ينظر إلى الموضوع من زاوية العلاقة الجدلية والبصرية. فنحن هنا لا نشاطر المفهوم الضيق للتقاليد البصرية العربية والإسلامية ولا نتحدث عن الزخرفة بالطريقة التلفيقية التي حاول منظرون من اتباع الهوية القومية وإبتذالاتها أن يسوقوها. فنحن نتحدث عنها كأشكال وعلاقات متاحة تنطوي على قيم جذابة للغاية لجهة انطوائها على تركيبات لونية تعكس المحيط الضوئي وتنقل بعده الروحي لنا كمواطنين عراقيين أو شرقيين ذوي ذاكرة بصرية إسلامية. ولكن مخزوننا البصري الزخرفي بقي للأسف في أطره وقوالبه القديمة من دون مراجعة كافية، أو انه عولج بشكل اخرق وسطحي من قبل دعاة العزلة والتمايز. وبالنسبة لي كانت أطروحة « واقعية الكم « لأستاذنا الكبير محمود صبري نقطة انطلاق مهمة للبحث في إمكانية استيعاب القيم البصرية للزخرفة في سياق عمل حديث. وفي الواقع كانت الإشارة إلى الزخرفة كمجال جمالي محتمل التطوير بالاستنارة بأطروحات واقعية الكم قد جاءت على لسان الدكتور رودولف خدريا، وهو للأسف الشخص الوحيد الذي وجد رابطة بين الأطروحة والتقاليد الزخرفية لبلداننا. وأعتقد بعد سنوات من تجربتي الجديدة أن المصدر الزخرفي سيبقى عاملاً مؤثراً في تأطير مشاهداتي وإستخلاصاتي كراءٍ وكمتأمل لن يتاح لغيري من المواطنين الأوروبيين.
• تؤكد في الكثير من حواراتك بأنك لا تستجيب لفكرة الاندماج السلبي مع المجتمع الهولندي لأنه يفقدك جزءاً من مكوناتك الثقافية المعروفة. ترى هل ينسحب هذا الموقف على الجانب الفني فيك بوصفك تشكيلياً عراقياً يتمترس خلف ذائقة فنية مميزة تتوفر على الكثير من نوازع الاعتداد بالنفس، والتمسك بالمصادر والمرجعيات الثقافية والحضارية. ما هي حدود التماس بينك وبين المنجز الفني الهولندي؟ وهل أن موقفك هو موقف الند للند أم أنه خاضع لشروط التابع والمتبوع؟
- لا يجب أن تكون عملية اندماجنا كبشر ضمن محيطنا الإنساني سلبية بل بالأحرى تكاملية. ربما لأنني نشأت في بيئة جدل شكاك ولا يكتفي بحسن النوايا. كما أن انفتاح تجربة جيلي على الثقافة العالمية وتياراتها أتاحا لي أن اكتسب ثقة واستعداداً للتفاعل مع الأخر بندية واعتداد بالنفس. وفي هولندا حيث المناخ الفكري المنفتح على الآخر والطبيعة السمحة والمتواضعة للنخب الثقافية تبلورت علاقة متكافئة وبناءة بيني وبين الآخرين. غير أن استقلال المرء ومقدرته على اختيار تفضيلاته من دون ضغط الظروف الاجتماعية وشروط الحياة ربما ساعدني على عدم التخلي عن ذلك الاعتداد. وفي أحيان كثيرة وجدت الهولنديين مستعدين بالأحرى لتقبل قراءاتي الخاصة لتاريخهم. بل اكثر من ذلك وجد الكثير منهم متعة في قراءة رؤيتي للمدارس الهولندية المعاصرة. على أي حال فإن الأمر لم يكن ليمضي بهذا الاتجاه من دون معرفة وثيقة بالأشياء والأفكار المشتركة وما حولها لتكون جسراً متيناً إلى الآخرين أينما وجدوا.
• انطلاقاً من رفض ( المستقبليين ) للماضي جملة وتفصيلاً بحجة حركة الزمن واندفاعها المحموم إلى الأمام، هل تفكر بثلاثية ( الماضي، الحاضر والمستقبل ) وأنت تنهمك في رسم عملك الفني؟ هل يستطيع الحاضر المتجسد فيك أن يوازن من نكوص المخيلة إلى الوراء ( الماضي ) أو جنوحها المفرط إلى الأمام ( المستقبل )؟ وأين تضع منجزك الفني وفق الطروحات التي يقترحها المستقبليون أمثال مارينيتي، جياكومو بالا، وإمبرتو بوتشيوني؟
- الأمر لا يتعلق بفكرة « رفض الماضي حسب، بل في العثور على المعادلة الصحيحة للممارسة الفنية بأعمق تفاعل وجودي مع العالم. كيف يمكن إدراك الزمن كقيمة من دون نبذ المكرس والمنجز؟ الزمن هو نقطة وقوف الكائن في لحظة معينة على مكان محدد. وفي تقديري نحن إذ نقف في ذلك الموقف إنما نكون في ذروة تجاوزنا للماضي من خلال تمثله بحيث لا توصف محاولة البحث عن « رؤية « الماضي إلا بوصفها نكوصاً. من هذه النقطة يبدو الجنوح إلى المستقبل فضيلة لا تحد من قيمتها الخسائر التي يدفعها كل مستكشف. على الجانب العياني من عملي يمكن القول إن ثمة تماثلات جلية بين إنجاز المستقبليين وغالبية فناني الحداثة التشكيلية في مختلف بلدانهم. فتقنيات العمل وتركيبته وبناه تعد الأكثر تمثلاً للقيم التي كرستها الحداثة ما بعد الانطباعية. ولا أجد مستغرباً تلمس صلة في الشكل أو في الإنشاء الموضوعي لعملي وبعض المستقبليين. ربما تجد قرابة اكثر لي مع بوتشيوني أكثر منه مع بالا ومارينيتي،إنما من دون إسقاط المفهوم المستقبلي تلقائياً على توجهي ودافعي الفني الذي يختلف جوهرياً والسبب هو إيماني العميق بضرورة التحرر من قيد المفهوم أو الأسلوب أو افتراضات المضامين الجاهزة. فعناصر مثل : الحركة ، والسعي للبناء المتقن والمكثف والحس الذي يلامس العفوية كلها حاضرة. اكثر من ذلك الانطلاق من موقع معرفي مترابط مع أشكال بعيدة للغاية عن العفوية البحتة أيضاً. هنالك ما يمكن وصفه بتأكيد للهاجس الانطباعي ـ البصري كما يسميه بوتشيوني. ببساطة متناهية : البصير يمكن أن يكون عبقرياً في أي مجال إبداعي وإنساني، ولكنه لن يصبح رساماً قط. والمعرفة الثقافية والأدبية والتاريخية، بالنسبة لي هي وسيلة النظر الوحيدة المتاحة لمثقف القرن الواحد والعشرين.
• لو قلبنا أوراق ذاكرتك المحتشدة بالقراءات الكثيرة فكم سنعثر في جانبها البصري على مهيمنات الفن الهولندي خاصة، والأوربي عامة، والتي تتعاطى معها بشكل يومي؟ كيف تتعامل مع هذه المؤثرات الفنية بوصفك ناقداً يتوفر على خبرة بصرية عالية، وأداة نقدية نابعة من التشكيل وليس من جنس إبداعي آخر؟
- للفنون في هولندا نكهة خاصة للغاية. فهي اكثر اقتصاداً وتقشفاً في الإنشاء ولكنها اكثر عمقاً وشفافية. خذ رامبرانت وفيرمير كمثال من القرن السابع والثامن عشر. ومن ثم فان خوخ وموندريان المتأخرين. هنالك فنانان هولنديان معاصران هما ارماندو وكونستانت تصب أعمالهما في ذات الوجهة. أجد من الصعب على أي دارس أو مهتم بالفن وتياراته تجاهل مميزات الهولنديين التي يمكن لنا ببعض التساهل وضعها بوصفها مزايا أخلاقية أيضاً. فرامبرانت مثلاً لم يغادر بلده، بل بالأحرى مدينته أمستردام حتى موته ورفض قيم مدرسة فلورنسا وروما المهيمنتين وكان يرسم مستعيناً بموديلات من حارته وجواره بدلاً من نماذج قياسية في علم الجمال كما كان يفعل الفلورنسيون ورسم أعماله بأقل قدر من البني الشفاف الذي كان يعتبر ميزة للرفعة والسمو. أما فيرمير وتقشفه وإبداعه في مجال اللون والحلكة فمعروف ولا تزال أعمال مصدر وحي للكثير من المبدعين المعاصرين. وهكذا إذا مررنا بجميع من ذكرت وآخرين كثر. ولكني أجد الهاجس المتمرد والرغبة بالتمايز التي يمكن رؤيتها في الفن الهولندي قريبةً للغاية للروح العراقية بتعبيرها المثقف والمهذب وليس في محطات الابتذال المتأخرة التي استخدمها المشعوذون ضيقو الأفق. القراءة والعمل في النقد قرّباني من روح الفن الهولندي ولكنهما لم يتحولا إلى مصدر لجنس آخر وذلك يمكن رؤيته في الأعمال الأخيرة. لا يمكن للواحد منا وهو يدقق أو ينقب إلا أن يجد ويعثر كما يقول التعبير.
• قبل أيام صرح أحد النقاد العراقيين بأن المنجز الفني العراقي في المنافي الأوربية يستجيب إلى ذائقة السوق من جهة، ويغيب فيه موضوع العراق تماماً، كما عاب عليه دخول بعض الموضوعات أو الفيكرات الأوربية إلى متن لوحته؟ ألا يحق للفنان العراقي المنفي أو المغترب أن يوظف معطيات الزمان والمكان والموضوعات الجديدة في نتاجاته الفنية؟ وهل من المعقول أن نظل أسرى الذاكرة التي تجاوزها الزمن؟
- لا يستحق القائل بغياب العراق رداً فهذا كلام سطحي وينطلق من دوغما كرسها ساسة ومعلقون من دعاة « الإلزام الفني « . العراق كذاكرة وثقافة وروح لا تغيب عن الفنان العراقي. أما إذا كان الأمر كما يفعل بعض السذج والسطحيين الذين يرسمون عملاً فنياً ويضعون تحته عنواناً كـ « الحصار الدولي « أو « جلجامش ينهض في بغداد « أو « نعم للسلام لا للعقوبات « أو تسقط أو تحيا … فأنا لا أشاطرهم « عراقهم « . العراق بالنسبة لي شيئاً خبيئاً في ثنايا الروح يتنفس معي ويتنزه معي ويسافر معي ومع زملائي المبدعين أينما نذهب. ثم يجب التأكيد على أن العلاقة بين الفنان والمشاهد العراقي وغيره يجب أن يعاد النظر بها على أساس الواقع الجديد الذي يعيشه الفنان والمبدع بوجه عام. فالذاكرة مثلها مثل مخزن للأحداث والتفاصيل. يعيد كل فرد ترتيبها بالشكل الذي يوائم دافعه الإنساني ونشاطه وتفاعلاته الوجودية. وهي ليست مادة متماثلة موحدة وجامدة لا تتجزأ. للأسف لا يريد بعض النقاد ممن اعتاد تسويق نثار مشوش من المفاهيم الأيديولوجية أن يعترف بصعوبة الحياة. وبتعقيد الكيان الإنساني والظواهر الوجودية. وهؤلاء لا يرون في أي عمل لا يمكنهم الدخول إليه من بابه أو شباكه نتيجة لخمول فكرهم، سوى عمل فاشل. وهم يحرضون روح القطيع التي سادت في ثقافتنا العراقية ولا تزال في اكثر من صعيد، ضد كل جديد ومبتكر وهم يعادون اكثر من أي شيء آخر جيل الشباب ومبادراته وإنتاجه لأنهم لا يتماهون معه لا في الشكل ولا في المضمون. المشكلة هنا هو إننا أمام نقاد كتبوا في كل زمان ومكان، وهم إذ فقدوا مواقعهم القديمة بدأوا بإطلاق التحذيرات الكاذبة من عناصر التجديد.