الحوار الاخرس لمرأة صاخبة
محمود خيون
رسم الروائي الكبير شوقي كريم في الجزء الأول من هذه الدراسة كيف يكون للوضع النفسي الذي يعيشه الإنسان عندما تنهشه الوحدة والغربة وخاصة النساء الوحيدات…ولعل الصورة بأروع أشكالها عندما وصف المرأة الأرملة وهي تستر عريها بثوب الحداد الأسود..ولا أدري كيف تمكن الكاتب من الولوج في تلك المرأة، وهي لم تكترث لوحدتها الجافة القاسية، مادامت تعيش لحظتها بسعادة وتمضي متخطية ضجيج الشوارع، مراقبة الوجوه الساقطة بتجاسر عذب على أيما شيء تراه وتستغرق فساتين السيدات واضعة خبرتها في تعليقات سريعة وتسمر عينيها عند واجهات دور السينما متابعة بجنون صبياني عيون النسوة الماشيات بذهول صامت وسط عالم ضاج بنداءات ساخرة، ثمة أشباح تظهر وتختفي مثل طيف وفجأة انفجرت دموعها مثل بركان تاركة الشوارع تتقيأ فراغها الحالم، ابتسمت بصفاء الماء رائق ورنت الى نفسها، تهيم في براري أيامها… القى والدها يديه إليها بعصبية وهمس:- مالك ياابنتي ؟!… مالت برأسها إليه وتمتمت:- لاشيء…ارتعشت شفتاه وعلت وجهه صفرة باهتة وهمس..لم تبكين إذن؟! ..ص٤٩
وتعيدنا هذه هذه المحاورة بين الأب والفتاة إلى مجموعة محاور كان فلاديمير نابوكوف بارعا في اجادتها من خلال روايته لوليتا التي مازالت إلى يومنا هذا في عقول الكثير من النقاد والباحثين لفك الغموض الذي ظل يكتنفها والتي اوصلتها إلى مكانتها العالمية في الشهرة على الرغم من محاولات البعض من المتشددين منعها..او في رواية أجاثا كريستي المرآة المكسورة أو ما وراء التل لتوماس وولف أو رواية ليوناردو بادورا في ( رواية حياتي)… أو في رائعة بلزاك الخياطة الصينية الصغيرة….وكلها مجتمعة تتحدث عن المشاعر الحقيقية التي تنام وتقعد في نفسية المرأة، صغيرة كانت أم كبيرة، فهي تكون كتلة من الحنان والمشاعر الجياشة والأحاسيس التي ما برع الرجل في تحريكها حتى تنفجر كالبركان وتهيم في أعماق الروح واللذة والشعور بالانتشاء….
وعندما ننتقل إلى قصة( الوهق) ..وفيها يعاود شوقي كريم محاولاته القديمة في أن يجعل من المرأة عالما مرفوضا تماما من قبل المتسلطين والطغاة وأصحاب الحسب والنسب ممن حالفهم الحظ فصاروا اسيادا على الخلق…( أنا ياحضرة السيد اريد أن اجلب زوجتي إلى القصر، اعيش والوحدة كما تعرف قاتلة، أريدها أنيسة في الليل الطويل !: …انتخت أمامي كوة، طالعت خلالها وجه زوجتي « الزوجات أشد لزوجة من الاكفان…وارق من الثرثرة « ..وجه باسم وديع لكنه مالبث أن أختفى في ظلمة شديدة، ارتجفت نواجده هلعا وانصبت كلماته شلالا يهدر دونما توقف…» انقطاع» هو:- لا اريد نساء في قصري، النساء كثيرات الثرثرة ولا اريد لاقدامهن أن تطأ هذا المكان…اريده مقدسا…اياك أن تخالفني..!!.. ص ٦٤
وبهذا السرد العنيف لصاحب السلطان ورفضه لوجود النساء في قصره ووصفه بالمكان المقدس….يتضح جليا أن المرأة لابد وأن تمثل عند بعض الناس هي مصدر القلق والخيانة التي من أعظم مايصدم بها المرء. فالزوجة الخائنة لايمكن لها أن تبرر خيانتها كما يبرر السارق أسباب فعل السرقة بالحاجة والعوز أو القاتل بالدفاع عن النفس…وكما وصفها الكاتب الإيطالي البروتو مورافيا في روايته( خيانة زوجة )… والتي وصفها أحد النقاد الغربيين بأنها( إذا يوجد رواية قد ملأتني اشمئزازا وقهرا وتصبرا حتى انهائها فهي روارية( خيانة زوجة ).. للكاتب الإيطالي لبروتومورافيا، تفاصيلها الدقيقة وتباطىء ردود فعل بطلة الرواية جينا يصيبك بالبرود القاتل )… وهناك أعمال أدبية كبيرة أخرى تتحدث عن قوة المرأة التي تتمتع بالعزيمة والصبر أمام المصائب التي هي محض من تجارب وخبرات حياتية لم تكن سهلة على الإطلاق…وهذا ماتجسد في رواية٣( لست امرأة عادية ) للكاتبة آلاء حسونة…وكيف المرأة الشرقية كانت في مرحلة من مراحل الحياة مسلوبة الإرادة وحولها المجتمع إلى شبه جارية أو خادمة فقد عانت من الظلم والاستبداد الكثير .
وفي قصة( النوم في الحجر) تطالعنا من جديد حالة من حالات الإحباط النفسي عند الرجل وهو يحاور مع نفسه ظل امرأة مثقوب وبنشيج روحي معذب…يردف قائلا ويرمي بشباك همه وحزنه في باحة القدر ومايسببه في اغلب الأحيان التعاسة والخيبة للكثير من الرجال الذين يحاولون البكاء حتى تخف وطأة الألم لكنهم يعودون ويثوروا على خيباتهم بالقول أن الرجال لايبكون……( :- القدر …قالها بمزيج من الحزن والارتباك، واستدار مريقا بريق المرايا فوق قسمات وجهه المتصحر مكتشفا أن الخيوط التي تشده إلى عالمها المتناسل كالفئران دون حساب..تقطعت بسكاكين فضولها المرتجف المذعور، واحدة، واحدة..ثم يعيد الكرة فيردف:- القدر!! هو الذي رماني في أحضان إمرأة تاج عرشها جنون وألم ومباهاة، امرأة تخاف ولوج أقبية الرجال المغمورة بالنور، تنهشني بلسان ثرثرتها، محدقة بأستقامة جسدها وادمة الأرض المرتجفة تحتها…تعبنا نحن الاثنان، يلوي الألم عنقي، فادفن رأسي مثل نعامة في ركام هزائمي ، تأمرني بصوت ملعون بالفرح )….
حتى الآن لم يستطع شوقي كريم مغادرة حالة الانكماش والانقباض النفسي المشحون بكابة قلقة ومخيفة ليصف لنا الحالة المزرية التي يعيشها هو في والتي تجسدت في هستيرية سردية غير مملة لكونية المرأة وعوالمها الخفية ..فيعود ليتساءل:-( ما الذي يجعل إمرأة مثلها تحس هذا الارتباك رغم انتمائها إلى عالم تأسره ألوان المصابيح العملاقة ولمعان نظرات التشهي، وسيل لعاب التمني من حلوق اللغو وأحلام تتعلق بحبال المودة الكاذبة )…
ومايزال الكاتب يدور في فلك تلك الحلقة المفرغة من الاحاسيس الجياشة والتساؤلات الغريبة عن كيفية الاحتكام على عوالم المرأة بكل خصوصياتها وتحريك شهواتها بما يخدم رغبته الجامحة في امتلاك جسدها البض وبكل مايحمل من مفاتن واغراءات…
وربما ندرك أكثر أن( شوقيا ) مافتىء يلوح من بعيد إلى أنه يقف على ناصية من الإدراك الذهني والعقلي في أن الأشياء لا تكتمل إلا عند اعتاب النساء العاتيات.