محمد زكي ابراهيم
كثيراً ما يضيق الناس بالأسماء التي تملأ الساحة الإعلامية اليوم. ويعتقدون أنها لشخصيات لا تجيد سوى الكلام. ويرون أن بقاءها في مراكزها خطأ كبير ينبغي إصلاحه. دون أن يدركوا أن البديل المطلوب غير موجود في الغالب. وأن هذه المشكلة غير قابلة للحل في معظم الأحيان.
وأنا لست أقل ضجراً من هؤلاء حينما أرى الشخص المناسب في غير موضعه، ففي ذلك إهدار لقيمة الكفاءة والموهبة والخبرة، وضرر كبير على المجتمع والناس. لكنني أعتقد أن من العسير الالتزام بمعايير المهنية في الوظائف العليا. لأنها خيارات سياسية وليست ثقافية. فالتاريخ في حد ذاته صراع بين القدرات العالية، والمتواضعة. كما أن صعود الحضارات وانهيارها يعتمدان بشكل أو بآخر على غلبة طرف ما على طرف آخر. ولولا ذلك لما انشغل الناس بقراءة قصص الماضين، وتعقب أخبارهم. فالسياسة في تبدل دائم، وحركة لا تهدأ.
وعلى العكس من ذلك لا تتغير الثقافة إلا ببطء شديد، إلى درجة أن البعض يتوسم فيها صفة الثبات، لأنها ترتبط بالأرض التي يترعرع عليها الناس. ولأن الثقافة لا يصنعها الزعماء الكبار، أو قادة البلدان، بل عموم المجتمع، من الحرفيين والعمال والفلاحين. كما تترسخ معالمها في الحوادث الصغيرة التي تطرأ بشكل يومي. وكذلك فأن القيم الاجتماعية والميول الإنسانية واتجاهات التفكير، تستمد وجودها من قطاعات عريضة من الناس، وفي مراحل زمنية مختلفة. وهي تتطور وتنمو وتتغير. لأن الحذف والإضافة من سمات الثقافة الحية. وليس هناك شخص مهما كان واهناً أو ضعيفاً، خارج حركتها أبداً.
إن التاريخ لم يكن في يوم من الأيام صناعة الأبطال لوحدهم. ففي العصور الشفاهية التي امتدت في بلادنا العربية حتى قرنين بعد الهجرة، حافظ أناس عاديون على إدارة دفة الأخبار، وأضافوا إليها من خيالهم الكثير، مما لا يمكن الجزم بدقته اليوم. حتى أن الحروب التي استعرت بين القبائل العربية، وأمدتنا بذخيرة واسعة من المعلومات عن الحياة أيامئذ، لم تنشب بسبب معقول، أو كاف. كما أنها لم تحدث بسبب الزعماء والقادة دائماً، لكنها – رغم كل ما فيها من آلام – أتت بمفردات لم نكن لنعرفها عن طريق آخر. فالمكاره التي يرتكبها أناس منفلتون، كانت نافعة إلى حد ما، لأنها حوت الكثير من الأفكار والمعاني وردود الأفعال.
إن الذين يمرون أمامنا في شريط الحياة كل يوم، هم في الواقع صناع تأريخ ناعمون. وربما يكون للسلوك الملتوي الذي يتبعه البعض منهم، أثر كبير في تطوير معرفتنا بالتاريخ، وفي عملية تقويم المسار الإنساني. وهذا هو في الأصل معنى التاريخ. ويجب أن لا نتوقع أن الحوادث الكبرى هي وحدها التي تتحكم بمصير الإنسانية. بل تشترك في ذلك اليوميات الصغيرة التي تخلق كل ما يمتلكه العالم من قيم وسلوك وعادات تنتقل من جيل لآخر إلى ما لا نهاية.