مهنّد الخيگاني
من البداية كانت أمه تدلّله على طريقتها حين تقول له: يا الله ما أكملك . لكنّ ، حين كبر قنديل ، أدرك بشكل تلقائي أن هناك أقدامًا تهرول داخل صدره، وفي بعض الأحيان تتسلق تلك الأقدام جسده إلى رأسه، مما يجعله يسمع فجأةً دويَّ خطى مقلِق ٍ يفزعه بالكامل، فلا يكون منه عند ذاك سوى أن يقفل عليها النافذة، ويحصل ذلك عبر إقناع نفسه بأنها أوهام لا غير.
في الشارع لاحظ ذلك، في المدرسة كذلك، كانت الناس تسير على قدمين ، بينما هو كان يسير على عجلات ، وينظر إليهم وينظرون إليه ، وكان يُسعد كثيرا بما يلاحقه من تلك الأنظار ، لأنه دائما يتذكر ما تقوله له أمُّه : ما أكملك . ولهذا فسّر أنها نظرات افتتان وتعجّب ، وليس لأيٍ كان أن يحظى بها ، هي للأشخاص الكاملين فقط، الأشخاص الذين خصّتهم السماء بتلك المكانة ورفعتهم في المقام . ولذلك لم تكن تثيره رياضة كرة القدم مثلا ، ولا كرة السلة ، ولا أي نشاط آخر لا يستطيع القيام به ، ومع ذلك كلما نال منه الارتياب يلجأ إلى أن يحلّل الأمر ويرجعه الى موضع وحيد كانت قد اتفقت فيه نفسه وتنشئته : هو لا يحتاج الى مثل تلك الحركات الفضفاضة والارتجالية التي بلا هدف حقيقي ، حتى وإن كان هناك هدف ، فهو مجرد وهم لا أكثر. انتهى . ثم يمضي الى حياته المعتادة بسلام .
ولكن ذات يوم حلم قنديل بأنه يمشي كما الآخرين ، ويمارس تلك الحركات التي لا يحبها ، فيما كانت الناس التي تمشي يوميًا ويراها في طريقه الى المدرسة أو السوق ، مقعدةً مثله . وهو ما دفعه الى الاستيقاظ كما لو أنه يريد النجاة من كابوس ، يملأه الغضب والشعور بأنه فقد كماله وتميّزه على البقية ظلّ يحاصره ، إذ كيف لأناس عادييّن كهؤلاء أن يصبحوا مثله ؟ .
بالتأكيد كانت كلمات أمّه تلعب دورا حاسمًا في تأدية شخصية المعلم الذي يذكّره ويلقّنه شعور الكمال والتفوق ، كانت تحبه حبًّا موجعًا لها ، حرّضها على تنشئته بهذه الطريقة الرافضة لمآل الوقائع.
إلا أن قنديل أصبح عدوانيًا بطريقة لافتة ، بسبب ذلك الحلم ، شعر مثلما لو أنهم سيسرقون تفرّده ، وبدأ يرمي بأنظارٍ ملؤها السخرية والاشمئزاز نحو الاخرين ، وحين لم يلقَ تجاوبًا غير تلك النظرات الحانية الدافئة حينًا و المشفقة أغلب الأحيان ، أخذ يدحرج الشتائم تلو الأخرى وهو يدحرج عجلات عربته على الطريق ، ومع هذا ، لم يلقَ قنديل أية استجابةٍ ممن أمعن في الإساءة إليهم ، وقد فوجئ من ذلك السكون النادر ، ففي العادة تغضب الناس من أمور غبية وتافهة ، وتحدث تحديات وفجائع ، لماذا لا يحدث مثل ذلك معه ؟ هل يخشونه الى هذه الدرجة ؟ هل هو مميز الى الحد الذي يجعلهم عاجزين عن فعل شيء ؟ أم أنهم يستحقون ذلك ولذا يميلون الى التحمل ؟ . دارت كل تلك التساؤلات في رأسه ، دون أن تصطدم بجدار أو إجابة شافية. وفي صباح يوم جمعة ، كان قنديل كما جرت العادة رفقة والده ، يتجهان الى السوق الشعبية القريبة من البيت ، لشراء بعض الفواكه والخضر ومن ثم يتجهان الى سوق السّمك فهو يوم الشواء المنتظر أسبوعيًّا، حيث تجتمع العائلة بكل أفرادها على وجبة الغداء ، وهناك شاهد امرأةً بعمر والدته تقريبا ، تحمل طفلا تشوّه وجهه تماما وطال التشوّه معظم أطرافه ، كان يشبه من يرتدي قناعًا مخيفًا بالنسبة اليه ، وقد أثارت تلك الصورة فضوله وتوتره وهو يشاهد هذا المنظر لأول مرة ، عندها قرّر أن يسأل والده عما حصل لذلك المخلوق ، فأخبره والده : إن تلك العلامات الناتئة على جسم ذلك الطفل تدلُّ على أنه تعرض لحروق شديدة، حروقٍ من الدرجة الثالثة . ثم أعقب الأب ذلك ب : كفانا الله شر الأقدار .
ولكنّ الذي جعل قنديل ينهار من البكاء في تلك اللحظة وصار يتفقدُّ ساقيه النائمتين منذ ولادته ، هو حينما سمع أُمَّ ذلك الطفل وهي تقول له بوجهٍ مشرق : يا الله ما أجملك يا الله ما أحلاك ! .