كريم النجار
عرف الفن الرافديني بجدارياته الكبيرة التي اهتمت بتدوين الاحداث العظيمة وبعض تفاصيل الحياة اليومية، جداريات تحاكي طريقة الكتابة والتوثيق كشريط مرئي طويل من الصراع والعظمة، تارة مع الطبيعة وتقلباتها، ومرة لإظهار عظمة الملك أو الاله وهو ينتصر كل مرة على اعدائه ويجندل الأسود والنمور ويجرها خائرة مطيعة ومهزومة أمام جبروته.
ما الذي جعل فنان تلك الحقب الموغلة بالتاريخ، أن يترك لنا هذا الأثر الكبير، الذي كان بالإمكان أن يكون هباءً منسياً، لو لا نبوغ فكره المتوقد وأزميله المبدع الذي حفظ الذاكرة الرافدينية من التلاشي والنسيان.
من هنا، من تلك الجذور النابتة بأرض الجنوب، هذه البقعة الخزين الواسع بالقصص والحكايات والحب والغناء الشجي والمآسي والهجرات والرحيل، يقدم لنا الفنان صادق كويش الفراجي كل مرة وجبة دسمة من هذه التدوينات، التي تشحذ المخيلة بصور جداريات متوالية وصادمة تهز أعماق الإنسان وترجعه شيئاً فشيئاً لترافة الأصل ونبع الماء الصافي وهسيس سنابل القمح وتفتح ينبوع الحياة داخل الجسد العاشق الفتي.
لكنه هنا يسحبنا بحنينه الجارف نحو وطأة وشقاء فعل الرحيل، ويقصد به الرحيل القسري الذي يقتلع الإنسان من أرضه وجذوره وبيئته، من عطر انفاس العائلة المؤتلفة داخل كوخ صغير إلى فضاءات المدن الأسمنتية الغريبة والكبيرة، إحساس مهول بالتشظي والفقدان، أو مسخ تام لذاكرة الأيام والعمر وهو يتبدى على ارصفة أزقة وشوارع كل شبر منها يصرخ بك ويعدك دخيلا عليه، وفي الأغلب يصفك بالمتخلف الذي اقتحم حصن تقاليده المدينية المنيعة، حتى وأنت تبني وتشيد له البيوت وتنتج في مصانعه وتعمل في جميع مؤسساته الخدمية الاساسية، غير ان تبدع بالرياضة والفن والأدب.
غن كما يغني الجنوبيون
هل يغني الجنوبيون كالآخرين؟
نادرا ما يستوحي فنان مجمل أعمال معرضه ويهديها، لصوت مغني يبثُ اللوعة والشجن في الروح والوجدان، كما فعلها (كويش) وهو يخلد بعمله هذا ذكرى المطرب الجنوبي العميق (سلمان المنكوب) الذي يرغمنا ويجرنا لسماع مواويله وخامة صوته الخاصة المشبعة بعطر الأرض وكفاح الفلاح الجنوبي ملتاثة بلوعة متأصلة تجاه الطبيعة والحياة القاسية وتباين الفوارق الاجتماعية التي جعلت الكثير من هؤلاء الناس الطيبين يتركون مسقط الرأس والروح، ويهاجرون نحو مدن الطابوق والأسمنت والحياة الجافة بفسحتها التي تضيق وتطبق على أنفاسه. فسلمان المنكوب ليس مغنيا يثير العاطفة ويدغدغ مشاعر الحب، بقدر ما هو صرخة موجوعة كما هو ألم الفقدان والرحيل.
تقف أمام جدارية هذا الفنان المخطوطة بالأسود على بياض الفضاء المحتشد بكل التفاصيل، وتقرأ عبرها تاريخك، هذا التاريخ الموغل بالنسيان والأسى، ومن هنا تداهمك الأسئلة بقوة، عن كيفية تجسيد صورة الألم بهذا البذخ الصامت حينا، والصارخ في أحيان كثيرة، النهر الذي ينساب على مائه زورق (بلم، مشحوف الشروك) رجال الصيد المفتولي العضلات، رجال الأهوار العظيمة التي تبدلت أحوالها ونمط عيش ساكنيها، ليس كما هو النهر في هولندا، أو أي بقعة أخرى، فهو يحمل في طياته قصصا من الشقاء والكفاح المر وتقرأ فيه كتاب الحياة، كتاب النهر الأول والثاني والثالث، حتى سلسلة طويلة من الصراع والحياة البدائية التي لم تتلوث بأفعال التكنولوجيا الحديثة، وليس ترفا كما في أماكن أخرى.
لقد أخذت مشاريع هذا الفنان المجد، بنبضها الحي وبوجدانيتها العالية وشقاء تنفيذها، طريقها إلى معارض ومتاحف العالم، وما احتفاء متحف الفن الحديث في أمستردام (stedelijk museum) مؤخرا بأعمال الفنان كويش، الذي افتتح موسمه هذا العام بأعمال مجموعة من الفنانين المحترفين، والذي يستمر حتى مفتتح العام القادم، بعد إغلاق اضطراري بسبب وباء كورونا، إلا تتويجا لجهود مبدعة ودؤوبة من قبل فناننا الذي تضج مخيلته بالعديد من المشاريع الفنية التي تنهل من جذور المحلية لتحلق في فضاء العالم الرحب.
وقد جاءت أعمال معرض صادق كويش الفراجي، تحت العناوين التالية:
- جدارية (غنِ كما يغني الجنوبيون) التي تتألف من ثلاثين لوحة تشكل بمجملها جدارية بحجم 3×7 م مع تركيب مواويل-أبوذيات بصوت المطرب سلمان المنكوب. 2019.
- ذلك النهر الذي كان في الجنوب (فيلم أنميشن مدته 5 دقائق- أبيض وأسود مع صوت استريو). 2019
- كتاب النهر1 (كتاب فنان 101 صفحة حبر على ورق). 2018
- كتاب النهر2 (كتاب فنان 72 صفحة حبر على ورق). 2018
- كتاب النهر3 (كتاب فنان 71 صفحة حبر على ورق). 2018