سلام مكي
للسلطة السياسية، مجموعة أدوات، تسعى من خلالها الوصول إلى مزيد من الهيمنة والرسوخ والتجدد والتمدد في قطاعات وحقول وأماكن متعددة في المجتمع، بغية إثبات حضورها ووجودها في كل ميدان حياتي، وليس داخل الوسط السياسي فقط. ولكلما قويت السلطة، كلما احتاجت إلى تلك الادوات، وقرّبها من صناعة القرار، لتكون جزءا من منظومة متكاملة. وبالعكس، حين تكون السلطة ضعيفة أو قلقة، ستسعى للدخول في متاهات وأزقة خاصة بها، في محاولة للبقاء، عبر الاهتمام بالجوانب الأكثر أهمية من غيرها. ولم يكن الشعر بعيدا عن اهتمام السلطة في العهد القريب، فرغم أمية النظام السابق، وجهله بكل شيء، إلا أنه كان مدركا لأهمية الشعر والشعراء كأحد مرتكزات حكمه، وضرورة من ضرورات إدامة ذلك الحكم البشع. في ستينيات القرن المنصرم، لم تكن السلطة سوى أسرة حمر، ملطخة بدماء عاشقي السلطة، والقاتل رفيق أو صديق. إضافة إلى صراع الايديولوجيات وصدام الأفكار التي ساهم في صناعة جيل شعري ملتزم بقضية ما، وتلك القضية تمثل قناعة كل شاعر في تلك الحقبة، وإيمانه بها. فكان الشاعر قريبا من معتقده أكثر من السلطة حتى لو كانت ذلك المعتقد هو ذاته معتقد السلطة. وفي حقبة الثمانينيات، حين أحكم رأس النظام السابق قبضته على السلطة، ودخوله في مغامرة الحرب العبثية، أدرك ضرورة أن يكون الشعر، كسلاح من أسلحة تلك المعركة، وريشة يلون بها المشاهد الحمراء ليحولها إلى خضراء أمام الشعب والمجتمع الدولي. فكانت المرابد والأقلام التي تكتب داعمة ومباركة للقذائف ومهلهلة للأشلاء التي تتناثر كل يوم في الجبهات، سببا أساسيا في إدامة أمد المعركة. أما في حقبة التسعينيات، فكان حاجة النظام للشعراء أشد وأكبر، ذلك أن الفظاعات التي ارتكبها بحق العراقيين الأبرياء وصور المقابر الجماعية والجثث المرمية على الطرقات، تحتاج إلى كلمات منمقة، ومزينة، في محاولة لتغطية الواقع بخرق بالية. وكان الشعر، هو السيف الذي يحارب به الشعراء، أعداء السلطة، وهو الريشة التي يرسمون بها لوحاتهم فوق الخراب الشامل للبلد. بعد التغيير، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وغياب الدولة، وتفتت مفهومها السابق، وتحوله إلى مجموعة تجمعات سياسية، كل منها يملك حصة في الدولة. كل أهدافه تتمثل بالحفاظ على تلك الحصة، بصرف النظر عن الطريقة أو الآلية. تلك التجمعات التي يطلق عليها خطأ ” أحزاب سياسية” لا تعرف شيئا عن الشعر والشعراء، ذلك أن وجودها وشرعيتها تكتسبها من التعاطف الشعبي، وكسب ود العامة من خلال ملامسة مشاعرهم الدينية والمذهبية، وهو ما تيقن لتلك التجمعات أنه سبب كاف، لنيل ما يريدون. فلم يعد للشعراء حاجة، لأن وظيفتهم في تزيين أفعال السلطة، تولتها جهات أخرى، أو السلطة بنفسها أخذت تتولى تلك المهمة. لكن بعض الشعراء، قرروا التبرع للسلطة، بالدفاع عنها، ولكن هذه المرة، ليس عن طريق الشعر، بل عن طريق البوستات والتغريدات. فلا نجد شاعرا كتب قصيدة عمودية أو قصيدة نثر، يدافع فيها عن تجمع ما، أو تيار أو حزب، إلا القليل وفي مناسبات ضيقة، بل استخدموا النشر في مواقع التواصل الاجتماعي، عبر تقديم أنفسهم كواجهات إعلامية للجهات التي يدافعون عنها. وهنا نسأل: هل ما عاد الشعر يحقق اهدافهم؟ هل انتهى عصر الشعر القريب من السلطة؟ هل أدرك الشاعر أن الشعر غير قادر على إيصال رسالته؟ فلجأ إلى الطريق الأسهل والأسرع والأقرب إلى التأثير في متابعيه. وبعض الشعراء من هذا الصنف، ينهمكون بمنشورات دينية ومذهبية وتحريضية، وفي الوقت عينه، لازالوا يكتبون الشعر ويصورون أنفسهم على أنهم شعراء!