محمد زكي ابراهيم
ليس ثمة تعارض بين ثقافة البلاد والسياسة الخارجية التي تنتهجها، حتى لو ابتعد رموزهما عن بعضهم البعض، أو ناصب نفر منهم العداء للآخر. هذا الأمر هو الذي يحدد لماذا تصر دولة ما على السير في اتجاه، في حين تجنح دولة أخرى عكس ذلك. فالواقع أن الثقافة – بمفهومها الاجتماعي الواسع – هي العامل المؤثر الأكبر في توجيه الزعامات السياسية، والأحزاب، وجماعات الضغط، والرأي العام المحلي.
وقد ذكرني هذا الموضوع بمقال كنت كتبته ذات مرة لصالح صحيفة عراقية احتجبت الآن، وكان موضوعه استقلال جنوب السودان، الذي وقع عام 2011. ولم أكن أعني في ما كتبته الجانب السياسي الذي يعرفه الجميع. فالمفروض أن الصفحة التي ينشر فيها المقال، هي الصفحة الثقافية. كان الهاجس الذي ألح علي في حينه هو الانتماء الثقافي لدولة جنوب السودان الجديدة. ولم تكن الصورة قد اتضحت بعد. هل ستكون عربية أو لا. وكنت أحسب أنها إذا اختارت العربية فعلينا أن لا نحزن كثيراً. أما إذا كانت خلاف ذلك فهنا تكمن المشكلة، وعلينا أن نحدد علاقتنا بها على هذا الأساس. لقد كان ما يشغلني هو تقدم الثقافة العربية في العمق الأفريقي، لأن هذا التقدم هو الذي أضاف لنا دولاً عديدة في العصر الحديث، مثل الصومال وجيبوتي وجزر القمر. في ما بقيت دول أخرى خارج إطار الجامعة العربية مثل تشاد وأريتريا، على الرغم من كونها تتكلم العربية. أي أن ظهور بلاد عربية جديدة يرجع إلى عامل ثقافي بالدرجة الأولى. وفي العادة فإن الدول ذات الثقافات المشتركة تدعم بعضها البعض حينما تدعو الحاجة. وقد حدث هذا حينما لم تجد أريتريا العربية في السبعينات والثمانينات من يقدم لها العون في حرب التحرير سوى البلاد العربية.
وكان من سوء الحظ أن دولة جنوب السودان طرحت الثقافة العربية جانباً، واعتنقت لغة المستعمر . ولم تعد تربطها ببلاد العرب رابطة. وعلى الفور تلقفتها إسرائيل، وحولتها إلى دولة معادية. كما حدث مع أريتريا التي اختارت زعامة تنتمي إلى أقلية غير عربية.
ربما يعود تراجع أسهم العرب في السياسة الدولية إلى تقاعسهم عن نشر ثقافتهم في أقطار الأرض مثلما حدث في الماضي. فاللغة التي وضعها الإسلام في مرتبة تقرب من القداسة ، هي التي حولت بلداناً معادية إلى صديقة. بل أن البلاد العربية القائمة الآن خارج الجزيرة هي نتاج تلك السياسة المجيدة، التي وحدت القلوب والعقول.
إن كثيراً من المفاهيم التي تصدر إلينا من الخارج هي الخطر الحقيقي على بلادنا لأنها تهدف في المقام الأول إلى زعزعة ثوابتنا الأساسية. لقد صنعت الثقافة العربية هذه الشعوب التي تعيش في النطاق الأرضي الكبير، الممتد من شواطئ الأطلسي حتى بحر العرب. وإذا ما انهارت هذه الثقافة في يوم من الأيام، فإن هذه البلاد ستنهار هي الأخرى، فهذه هي طبيعة الأشياء.