من دون وجود وانتشار وباء “البلاهة” لا يمكن لكل هذا المكر والدهاء المرافق لهيمنة القتلة والمشعوذين واللصوص، من البقاء والتمدد لتفاصيل حياة الدولة والمجتمع، والتمكن من اعادة تدوير سلطتهم وسط كل هذه الزحزحات التي هزت العالم كله. انها حقيقة يمكن التاكد منها بيسر مع ما تحرص على انتاجه انظمتها وتجاربها السياسية والعقائدية؛ من ضحالة في الوعي والذائقة والمواقف المهينة لضحاياها من بعضهم البعض الآخر، وهذا ما تجرعناه بمرارة برفقة السلطة الغاشمة في عراق ما قبل “التغيير”. ذلك الاحتياطي الهائل من “البلاهة” والذي يشكل عائقاً شديد الفعالية أمام ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، لم يجد من ينبري لتجفيف مستنقعاته وحسب، بل على العكس وجد من يشمله برعايته واهتمامه، حيث سرعان ما تحول الى رصيد لا مثيل له، لتمرير اجندات ومشاريع السلالات الجديدة من قوارض المجتمعات والبلدان. ان سر قوة ونفوذ هذا الوباء، يكمن في قدرته على التخفي خلف واجهات وعناوين تدعي الحكمة والوعي العميق، وغالبا ما تتمترس خلف الشعارات والخطابات الطنانة، وكل ذلك يتم بمعية ما خلفته الحقب الغابرة من حطام الانتلجينسيا وسكراب الشخصيات المرموقة وفقاً لمعايير البلاهة السائدة.
لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر الشعار الذي تلقفته ساحات الاحتجاج، وتحول بهمة وسائل الاعلام المتيمة بـ “الثورات والانتفاضات..” الى ما يشبه الايقونة أي “الوعي قائد” ذلك الشعار الهلامي الذي لا يعرف له لا رأس ولا قدم. فما الوعي من دون التفاصيل الواضحة والملموسة..؟ هذا والكثير من الشعارات والعناوين المفصولة الجذور، والتي هي أقرب الى البلاهة منها الى الوعي والفهم العميق لتفاصيل ما يجري من صراعات ونزاعات محلية واقليمية ودولية. ها نحن اليوم ننزلق الى مسارب غاية في الخطورة، ولم تلوح اية بارقة أمل جادة تشير الى انعطافة رصينة صوب الاصلاح والتغيير، وما موعد الانتخابات المبكرة والرهان على ما سوف يحصل من تحولات نوعية، سوى جرعة اضافية مما تضمه ترسانتنا التقليدية من مسكنات. ما البلاهة غير ما نشاهده اليوم من عنفوان فاشوشي لا يستند لاي علامة أو اشارة على ولادة وعي جديد وفهم عميق واستعداد تنظيمي يكون استئنافاً لافضل ما عرفه العراقيون من تقاليد وقيم..
غالبية وسائل الاعلام والمنابر والمنصات وما انتفخ من نجوم حقبة الفتح الديمقراطي المبين؛ منخرطون في ورش هندسة البلاهة وضخها وتسويقها، وهي تمرر عبر تسميات وتقنيات مجربة لا يعدم المتابع غير الملامس لوباء “البلاهة” ان يكتشف الكثير من فتوحاتها في تاريخنا القديم منه والحديث، حيث ابواب الدولة والمجتمع مشرعة دائماً أمام قوافل القتلة والمشعوذين واللصوص. ما الذي يمكن فهمه من هذا الكم الهائل من الدعوات لتأسيس المزيد من الاحزاب والتنظيمات، تحت ذريعة تمثيل جمهور المحتجين والمتظاهرين، وغير ذلك من تقاليد ومواهب راكبي الامواج أو “الدراجات” كما يصفهم الماغوط؛ عندما سارع غير القليل من “دمى الفضائيات” الى افتتاح مكاتب لحوانيتهم السياسية الجديدة..! من دون أدنى التفاتة لما يعنيه هذا العنوان (الحزب السياسي) وشروط تأسيسه ومتطلبات وجوده، بوصفه استجابة لحاجات موضوعية وذاتية عميقة ومعقدة، لا اضافة جديدة لمشوار الاستغفال الطويل المستند الى ركام البلاهة وجمهورها؛ المتخصص بصناعة الخيبات..!
جمال جصاني