محمد زكي ابراهيـم
كان النهضويون العرب يعولون على إنشاء الجامعات لأنها صانعة النخبة، التي تتولى مهمة التغيير، وقيادة التنمية، وبناء الأمة. ويؤمنون أن آلاف الشبان المؤهلين للنزول إلى سوق العمل أو مراكز البحث أو معترك السياسة كل عام، هم الحل السحري لكل ما يعانيه العرب من إخفاق وتراجع وفقر وتخلف. رغم أن مهمة بناء الجامعات في وقت مبكر من القرن الماضي لم تكن أمراً متيسراً، بل كانت أقرب إلى الأحلام منها إلى الحقيقة!
وبسبب ذلك كانت النخبة يومئذ مؤثرة وفاعلة. وكانت الأنظار تلاحقها أينما حلت. لكنها لم تستطع أن تنهض بالعبء، وأن تبشر بغد أفضل. وكانت وظيفتها الأساسية هي تهيئة كادر متعلم لشغل الوظائف الحكومية. وهو إنجاز ليس بالهين على أية حال.
وقد تجمعت بمرور الوقت نخب ذات إلمام كاف بأنواع المعارف الإنسانية، وبشتى فروع العلوم النظرية والتطبيقية. ولم تكن أقل من ذلك في الآداب والفنون والسياسة. لكنها مثل سابقتها عجزت أن تشكل أي مشروع ناجح للولوج إلى العصر.
ومعنى ذلك أن النهضة تحتاج إلى مقومات أكبر وأعظم مما امتلكه هؤلاء في الماضي القريب، أو حازوا عليه في ايامنا هذه. لكن المجتمع المفتون بهذه الصفوة من أبنائه لم يكن قادراً على فهم المعادلة. فقد رسخ في ذهنه أن العلم هو سبيل التقدم. وقد وجده يتدفق بين أنامل أبنائه وبناته، دون مردود كاف.
إن ما ترثه الأجيال المتلاحقة من معارف إنما يأتي عبر عملية اتصال منتظمة. فالأبناء يحذقون صنعة آبائهم بملازمتهم في ورش العمل، ويتعلمون أسرار المهنة، بمشاركتهم في أداء جانب منها. وحتى يتمكن هؤلاء من تخطي آبائهم، والتفوق عليهم لا بد أن يحظوا برعاية خاصة لسنوات طويلة. فوسائل التعلم لا تقتصر على الأخذ عن السابقين، بل تتعداهم إلى التجربة المستمرة، والاحتكاك الدائم، والمنافسة الجادة، وهكذا.
إن هذه العملية التي توفر سبل التقدم، وتمنح القدرة على التفوق، هي ما يطلق عليه، في بعض الأوساط العلمية، اسم الثقافة. فالتفاعل اليومي يقود إلى هدف أكبر من كسب لقمة الخبز، أو تأمين متطلبات العيش. ويتعدى الضرورات إلى ما هو أكبر منها بكثير.
ثمة من يظن حتى هذه اللحظة أن الثقافة تشتمل على النتاجات الأدبية أو العقلية، المرئية أو المسموعة أو المقروءة فحسب. مع أنها ليست إلا جزء صغيراً منها. إنها في حقيقة الأمر الوسط الذي يمكن لهذه النماذج وسواها أن تنمو، وتتطور، وترى النور فيه.
إن دور النخبة يكمن في تحسين أداء ملايين الأشخاص، الذي يعملون في مختلف مناحي الحياة. وسيشعر هؤلاء بقيمة الثقافة حينما تتنامى إمكاناتهم العملية، وتزداد مدخولاتهم المادية. هذا الدور هو السبيل الأمثل للتقدم، وتهذيب السلوك، وتطوير الاقتصاد. ولاشك أن أهم ما يفترض بالثقافة أن تصنعه هو العمل من أجل حاضر أجمل، ومستقبل أفضل، وحياة حافلة بالرخاء!