عباس فالح
للنفسِ علاقةٌ وطيدةٌ في بِنية النصِّ الأدبيّ، لذلك لم يكن نظمُ الشّعرِ عند الشعراءِ يقفُ عند حدِّ اللفظِ والمعنى، أو الوزنِ والقافيةِ، وإنما كان للأثرِ النفسي حضورٌ كبيرٌ في أشعارِهم ذات التأثير العميق في المُتلقِي، والبعد الدلالي الذي يحملُه النصُ، الناتج عن تموجاتِ الحركةِ النفسيّةِ، وعندَ تمحيصِ النقدِ العربيّ القديمِ نجد أن نقّادَنَا القدامى قد اهتموا بعلاقة النصّ الأدبي بنفسية منتجه؛ بوصفه حالة انفعالية صادقة، تعبّرُ عن المعاناة النفسية للمبدع، وبذلك أصبح لهذه العلاقة مكانةٌ بارزةٌ ومكونٌ أساسيٌ وانتاجيٌ في نظرهم للشعر والشعراء، وتصنيفهم حسب الطبقات، ومنهم: ابن قتيبة (ت276ه) في كتابه “الشعر والشعراء”، وابن سلّام الجمحي (ت281هــ) في كتابه “طبقات فحول الشعراء”، وعبد القاهر الجرجاني (ت471ه) في كتابه الأثير “أسرار البلاغة” وغيرهم من النقاد الذين تنبهوا لهذه العلاقة.
فابن قتيبة بيّنَ ذلكَ في حديثهِ عن أقسامِ الشعرِ، ومراحل بناء القصيدة المدحيّة، وتحليلها تحليل نفسيّ بقوله: ((وللشعر تاراتٌ يبعد فيها قريبه، ويَستصعِبُ فيها ريِّضُه، … وللشعر أوقات يُسرع فيه آتيُّه ويسمح (فيها) أبيّه، منها أوّل الليل قبل تغشِّى الكَرى، ومنها صدر النهار قبلَ الغذاء، ومنها يومُ شرب الدواء، ومنها الخلوةُ في الحبس))([1])، وكذلك نجد الجرجاني قد أفاض في معرض حديثه عن شرح النواحي النفسيّة المتعلقة بالشاعر والناثر على حدٍّ سواء بقوله : ((فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا أو يستجيد نثرا، ثم يجعل الثناء من حيث اللفظ فيقول، حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أن ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف، أو إلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقترحه العقل في زناده)) ، فهذه إشارة بليغة وواضحة جسّدت تلك العلاقة الوطيدة بين الشاعر والأساليب الإبداعية المؤثّرة في نفسيته.
وغيرهم من النقاد القدامى والبلاغيين الذين عنوا بالقضايا النفسيّة من انفعالات وأحاسيس ومشاعر حدّدتها بيئتُهم المحيطةُ بهم، وهذا خلاف ما ذهب إليه بعض النُّقادِ المعاصرينَ نافيا بذلك خلوَّ النقدِ العربيّ القديمِ من دراسةِ الأثرِ النفسيّ في الإبداع الشعريّ لدى الشاعر وفي قول أحدهم: ((إنَّ بعضَ النقادِ القدامى لم يحفل بالمهمة العميقة التي يقوم بها الفنان ومنهم الشاعر، وقد انصب النقدُ على الوزن والقافية، أي على الموسيقى ثم المعنى، متجاهلًا العوامل النفسية المؤثر في نظم الشاعر في رغبته ورهبته وطربه، … وبنيت طبقات الشعراء حسب تلك المفاهيم التي كانت محاولات الفن النقدي الأولى عند العرب، ونسي العامل النفسي))، وهنا، نستشفّ من ذلك أن المؤلّف لم يصل إلى فكرتِهِ إلا عِبرَ ما ﭐطّلعَ عليه من كتب النقد القديم في حديثها عن الصلة الوثيقة بين النص الأدبي ونفسية مبدعِه، مدعيًا بذلك أن النقادَ المعاصرينَ أوّلُ من اهتمَّ في هذا المضمار، وأكدوا على تلك العلاقة العميقة التي تربط الشاعر بنفسيته، وهذا لا يعني أن نبخس حق النقاد المعاصرين الذين تبحروا وأفاضوا في دراسة نفسية الشاعر وأثرها في شعرِه، ولا سيما إيليا حاوي في دراسته لشعر أبي تمام، وعزّ الدين إسماعيل في تفسيره للأدب وغيرهم.
ولو تأمّلنا الشعرَ العربيّ من العصرِ الجاهلي حتّى العصرِ الحديثِ وجدنا أن التجربةَ النفسيةَ التي يعيشها الشاعر لها أثرُها البارزُ في ثنايا شعرِه، ومنهم قديما الفرزدق ـــ ولم يكن الأول من أشار إلى ذلك ـــ إذ كانت لمعاناته التي تختلج نفسه ـــ معاناة الكره من لدن النساء ـــ جعلت النقاد القدامى يتعرضون لشاعريته بالدرس والتحليل ومن ذك قوله ناقما على النساء:
وأهون عيب المنقريـــــــــــــــــــــــة أنّها شديد ببطنِ الحنظليّ لصوقــــها
رأت مِنقرا سودا قصارى وأبصــــــــرت فتىً دَارِميّا كالهلال يروقــــــــــها
فإذا أجرينا عمليات التحليل على هذه الأبيات نجدها متناسقة الوزن والقافية، ومستقيمة اللفظ والمعنى، أضف إلى ذلك التجربة النفسية –السياق- التي دعت الشاعر لنظم هذه الأبيات، رغبةً منه في إصغاء النساء إليه، وهي تجربة دافعها الأوحد الكره والنقم على النساء بعد أن تعرّضَ للرفض عدّة مراتٍ ؛ بسبب منظره الذي لم يسعفه في إقامة العلاقات التي يبتغيها مع النساء، وهذا البيت جاء إشارة واضحة على علاقة الشعر بنفسية مستعمله.