في ذكرى مرور 62 عاماً على ولادة ما عرف بـ “الجمهورية الاولى” (1958-1963) سنحاول تسليط الضوء على علل النهاية التراجيدية لذلك المشروع الوطني والحضاري. صحيح انها ولدت بعملية قيصرية تمت بمشيئة وتخطيط ما يعرف بتنظيم الضباط الاحرار، والمدعوم من جبهة الاتحاد الوطني التي ضمت عدد من الاحزاب الوطنية والثورية الراديكالية، الا ان ذلك لا يقلل من شأن هذه المحطة المهمة من تاريخ العراق الحديث. كما هي حال غالبية ما مر على تضاريس هذا الوطن القديم من احداث وزحزحات وحركات اجتماعية وفكرية وشخصيات توهجت ثم اسدل عليها ستار النسيان او التسفية والتضليل، يجد هذا الحدث الوطني والتاريخي نفسه محروماً من ادنى اهتمام يليق به وينتصر لمعناه ومغزاه في رسم حاضر العراق ومستقبله. ان الدفاع السطحي والعقائدي المثقل باجترار ذات الشعارات والخطابات التي عفا عليها الزمن، لا يقل ضررا عن الحملات الشرسة والممنهجة لتسفية وتشويه حقيقة ومعنى ذلك المفترق الذي انتقل بالعراق الى “الجمهورية الاولى” والتي أخفقت بالدفاع عن نفسها بعد سلسلة من الاعمال والقرارات البعيدة عن الحكمة والفطنة والمسؤولية.
بعد فوات الاوان أدرك الزعيم وهو محاصر من دبابات الانقلابيين وقطعان حرسهم القومي؛ من هم أعداء الجمهورية ومشروعها الوطني والحضاري، ومن هم المدافعين البواسل عنها والذين خذلتهم قراراته المتسرعة والمستندة لمعلومات وتقارير “احصنة طروادة” من الذين شكلوا حاشيته المقربة في الاعوام الأخيرة، وهذا ما اعترف به لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي سلام عادل في ساعاته الاخيرة، ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان الزعيم عبد الكريم قاسم لم يكن يطيق سلام عادل لأسباب ما زالت مجهولة..! وهذا ما يفترض الالتفات اليه ومعرفة نوع المعلومات التي كان يتلقاها والاشخاص الذين يقفون خلف ذلك. المطلع على الحياة الداخلية للحزب الشيوعي آنذاك، يعرف ما كانت تضج به من تمترسات وكتل تجاوز التناهش بينها ابسط المبادئ والمعايير الحزبية السليمة. ما حدث بعد اغتيال “الجمهورية الاولى” يكشف بوضوح خارطة المجتمع والدولة العراقية وطبيعة الاصطفافات الفعلية لا الملتبسة فيه. قوائم الاغتيالات والتصفيات الممنهجة عرفت طريقها الى اصلب المدافعين عن الجمهورية، بينما لم يتعرض غير القليل من مساعدي الزعيم والمقربين له في الاعوام الاخيرة لغضب وسخط الانقلابيين…؟
عندما اتمعن بمشهد عبد السلام عارف وهو يهتف بحياة الزعيم عبد الكريم قاسم، لحظة سماعه لحكم الاعدام الذي اصدرته المحكمة العسكرية الخاصة بحقه بعد محاولته اغتيال الزعيم، وموقف الزعيم منه انطلاقا من مقولته الشهيرة “عفا الله عما سلف” واقارنها مع ما جازاه به بعد ان توج الزعيم اخطائه بآخرها وافدحها اي استسلامه للانقلابيين، متوهما امتلاكهم لشيء من خصاله وشيمه؛ حيث تم تصفيته ورفاقه داخل الاذاعة من دون ان يحظون بمحاكمة لائقة وحسب، بل استكثروا عليهم ما يحصل عليه اعتى المجرمين بعد عملية الاعدام؛ أي القبر والدفن الكريم..! من ذلك الحدث المشؤوم يمكن قراءة واستشراف ما جرى للعراق والعراقيين من كوارث وأهوال، وهي مهمة لا يمكن ان تنهض بها الجهات والمخلوقات المثقلة بترسانة الاجابات العقائدية الجاهزة، ولا ما تبقى من دغل “الاحزاب” التي تدعي نفسها امتداداً لارث جمهوريتنا التي خذلت نفسها بنفسها، بعد أن جردت نفسها بملأ ارادتها من سلاحها وجمهورها والمدافعين الحقيقيين عنها. انها قصة حلم حوله الخذلان المتبادل؛ الى مسلسل طويل من الكوابيس…
جمال جصاني