د.محمد فلحي
لم يعد التوريث السياسي موضوعاً غريباً أو خبراً مفاجئاً،فأغلب الحكام والزعماء السياسيين في بلادنا العربية مصابون بداء الوراثة، ويسعون علناً لتوريث الكراسي لأولادهم وأقاربهم،وحجتهم في ذلك كما يزعمون:إذا كنت زعيماً ناجحاً فإن الوريث سوف يكمل مشواري،وإذا كنت عاجزاً او فاشلاً،فوريثي سوف يعالج أخطائي ويستفيد من تجربتي،وهي حجة تبدو مقنعة للبطانة المستفيدين لكنها باطلة لدى الكثيرين!
في هذا السياق،تناقلت المواقع شائعات، قبل أيام، حول تمهيد رئيس عربي الأجواء لتوريث الحكم لابنه،بعد سنوات أمضاها في السلطة،التي وصلها من خلال انقلاب عسكري سبقته ثورة شعبية،في حين لم يتورع زعيم حزبي عراقي عن الحديث علناً حول توريث كريمته،وهناك كثيرون مثله أصبحوا عرّابين لعائلات حاكمة، وفي مقدمتهم ترامب!
مشاريع توريث السلطة التي شهدتها دول المنطقة العربية، خلال التاريخ القديم والحديث،جرت أما من خلال نظام الحكم الملكي الوراثي، كما الحال في العراق ومصر، في بداية القرن الماضي، ودول عدة مشابهة،في الوقت الحاضر،وهو نوع من التوريث الذي يغطيه الدستور أو العرف السائد، وأما خلال الحكم العسكري والجمهوري،حيث تصطدم الرغبة في التوريث ظاهراً بجدران الديمقراطية المزعومة والانتخابات المزورة،ولكن من السهل على الحاكم اختراقها بطريقة ثورية أو شرعية..ضعف الطالب والمطلوب!
في تراث الدولة الإسلامية يروي التاريخ قصة أول توريث سياسي رتّبه معاوية بن أبي سفيان لابنه يزيد،بعد مناقشة وحوار بين معاوية ووجهاء القوم، حيث يقف يزيد بن المقنّع فيحسم الأمر بقوله:
أمير المؤمنين هذا(وأشار إلى معاوية) فإن هلك فهذا( وأشار إلى يزيد) فمن أبى فهذا(وأشار إلى السيف)!!
نتيجة هذا النوع من التوريث السلطوي بحد السيف أصبحت معروفة، فلم يترك يزيد السكيّر جريمة خلال ثلاث سنوات من الحكم إلا ارتكبها، وأبشعها قتل الإمام الحسين بن علي عليه السلام، الذي رفض بيعة الفاسد الظالم، ثم بعد أشهر أمر يزيد جيوشه بمهاجمة المدينة المنورة التي تمرد عليه سكانها ورفضوا بيعته وأغلبهم من صحابة رسول الله(ص)،فقام قائده العسكري العجوز الخرف(المسرف) مسلم بن عقبة بإطلاق جنوده لاستباحة المدينة لمدة ثلاثة أيام،قتلاً ونهباً واغتصاباً، في مجزرة سميت ب(واقعة الحَرّة)!
توالت عملية التوريث طوال قرون خلال حكم الأمويين والعباسيين والعثمانيين،وكان الحكام يكيدون كيداً، ويقتل بعضهم بعضاً، في صراعهم الدموي على كرسي الحكم، يقربون إلى حاشيتهم الوزراء الفاسدين وينصبّون الوضيعين ويخالطون المخنثين والتافهين،ويستبعدون كل شجاع وشريف، وذلك خشية منافستهم على السلطة أو كشف جرائمهم ومفاسدهم!
في تاريخنا المعاصر،عرف العراقيون صيغة توريث السلطة، خلال أول عملية توريث جمهوري تمت للرئيس الراحل عبد الرحمن عارف الذي وصل إلى الحكم بطريقة (التوريث الأخوي)،كما يمكن أن توصف صيغة استلام وتسليم الحكم بين البكر وصدام بأنها نوع من التوريث العائلي والسياسي في آن معاً،وقد تشابكت هذه العلاقة والمصاهرة العشائرية- السياسية،وذلك لتمتين حلقة العائلة، تمهيداً للتحول من حكم الحزب الواحد إلى حكم(عائلة القائد)، الذي سقط قبل أن يتم مشروع توريثه!
في العراق الديمقراطي لا يخجل اليوم كثير من(الزعماء) عن تقريب أبنائهم وبناتهم وأقاربهم وخدامهم،وتفضيلهم في المناصب، والسعي لتوريثهم كراسي(المالات) وسط تصفيق المنافقين.. ولكن السؤال: إذا كان المورّث خاسراً، فما نصيب الوريث؟!