يوسف عبود جويعد
بما وأن النصوص السردية الروائية، تنطلق من أرض بلدنا، فإن الأحداث التي تدون تعتمد على ما جرى ويجري فيه وتتخذه قاعدة ومنطلقاً لها، وهكذا فإن الحركة السردية الروائية شهدت كتابات كثيرة ومتنوعة، ولكن على أرض هذا البلد ومن تلك الاعمال السردية، رواية (الكنزة الزرقاء) للروائي فريد الطائي، الذي يبدأ رحلته في مبناه السردي من خمسينيات القرن الماضي، لتنتهي في الفين وثمانية عشر من القرن الحالي، وهي رواية دائرية شأنها شأن الكثير من النصوص السردية التي تبدأ من حيث انتهت، وتنتهي من حيث بدأت، كون أن سلام بطل هذا النص يترك مخطوطة هذا النص السردي بعد أن ينتقل لجوار ربه، لتكون مهمة طاهر صديقه فتح مغاليق هذه المخطوطة لنشرها على الملأ، لتكون حكاية أخرى من حكايات هذا البلد، التي تبتدئ بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم، وتنتهي بعد التغيير المزعوم، ولم يكن هذا النص ينحو منحاً سياسياً، أو يحمل خطاباً سياسياً أو تاريخياً يعنى بالأحداث التي دارت في الساحة العراقية، وإنما هو حكاية أسرة عاشت وسط هذه التموجات:
(جلس على الكرسي، كدَّس الأوراق على الطاولة بعد أن انتزعها من حقيبته، وبينما يحاول ترتيبها، وقع بصره على الصفحة الأولى، لتفصح عن سلام وهو يتحدث، وكأنه بُعث من جديد، أشعل سيكارته، بعد أن أخذ الرشفة الثانية من قهوته، أغمض عينيه برهة، شعر بشعلة متقدة في عينيه تدفعه نحو القراءة، وضع نظارته فوق أنفه، وقعُ الكلمات يوحي إليه بوجع غامض، سطور كساها الرماد عبر الحروف والمقاطع، وبقايا ذاكرة مثقلة بحماقة لا حد لها، ربما هي لوحة لم تكتمل بعد…) ص 12
وهكذا ومن خلال تلك العتبة النصية، يضعنا الروائي في قلب الأحداث لننطلق نحو سبر أغوار عائلة الحاج مهدي المتكونة من الأب والأم وسلام وكفاح وأحلام، لتدور الأحداث من خلال سلام الذي تولى مهمة سردها، رافقت المسيرة السردية لغة تنسجم وتتلاءم مع السياق الفني الذي اتخذه الروائي للتدوين حيث إن تلك اللغة تضمر بين ثناياها حالة من الأسى والحزن والندم، تفاعلت وانصهرت مع الاحداث، لتكون لغة شعرية منبعثة من تداعيات الروح.
وتنطلق الاحداث وبعد أن تجد الاسرة في سكنها في الموصل خطورة على حياتهم بسبب توجه الاب اليساري، وأن الشيوعيين يُقتلون مقابل عشرة دنانير في ذلك الوقت، يشد الرحال وينتقل الى بغداد، فيكمل سلام دراسته ويلتحق بالكلية، بينما يصاب كفاح بحالة اكتئاب شديد، بسبب فقدان حبيبته إثر حادث دهس بسيارة مسرعة.
ثم ننتقل الى البؤرة الرئيسية والمركزية التي تحمل بنية العنونة، العلاقة العاطفية بين سهى زميلته في الدراسة، وسلام الذي بادلها ذات الاحساس، وكبر هذا الحب وترعرع في أجواء الدراسة الجامعية.
ويفرد الروائي فصلاً تحت عنوان (الكنزة الزرقاء) يستعرض فيها تفاصيل تلك العلاقة، مع مسار حياة سلام وأسرته، إلا أن تلك العلاقة لم تعمر طويلاً، بسبب حالة نفسية اصابت سلام، أحس من خلالها بأنه فقير ومن أسرة فقيرة، بينما سهى نشأت في كنف اسرة غنية، عندها قرر سلام وبدون سابق انذار الابتعاد عن سهى، وقطع علاقته منها:
(لم أرفع يدي لتحية الصباح، لم أنطق بكلمة صباح الخير، الارتباك بان عليها، الدهشة في عينيها تغلفها الدموع، أسير وأنا حاد الملامح، أية هزيمة منكرة أعاني، لابد أن امضي، قرار دفعني إلى ما هو أبعد من حدودي الذاتية، هل يجوز أن أرمي حجراً في بئر ارتويت من مائها؟ أي شقاء هذا، أين مني حبل نجاة يقذفني بعيداً عن شواطئ أحزاني، من يقامر على الوقوف معي؟ ما الذي حل بي حين أقدمت على حماقتي تلك؟ هل استشعر الوحدة والحرمان؟ أم أمضي قدماً دون فزع؟) ص 109 .
من خلال هذا النص المستقطع من متن النص، يتبين لنا حجم الحماقة الكبيرة التي ارتكبها سلام مع حبيبته التي تكن له الحب والعاطفة، سيكون له الأثر الكبير في لاحق الأحداث، كونه سيعيش لذكراها، والأيام الحلوة التي عاشها، وسوف لن يجد أي امرأة أخرى تملأ الفراغ الذي خلفته في وجدانه، ومع تلك الاحداث سوف نتابع تفاصيل عن حياة أسرة سلام، سفر كفاح خارج الوطن لسوء حالته النفسية، وكذلك اكمال أحلام لدراستها، وزوجها بعد تخرجها، وفاة الوالدة، واحداث كثيرة وكبيرة تنطلق من أرض بلاد متواترة بالحروب.
وتحدث المفاجأة المثيرة للشجن والحزن، بحدوث انفجار كبير في مبنى المحافظة، والذي يقع فوقه مكتب أحلام شقيقة سلام:
(في الطب العدلي، كان زوجها منهاراً يصرخ وهو يمسك بسياج حديدي أصم، يضرب رأسه بقوة، يعاود الصراخ راحت أحلام لم اتمالك نفسي، سقطت مغشياً على الارض!!!) ص212
وهكذا تدور دوائر الاحداث داخل النص، بخطين متوازيين، حياة البلد وتاريخه السياسي والحروب والكوارث والانفجارات، وحياة اسرة سلام، واهم من ذلك كله علاقة الحب التي نشأت بينه وسهى، والتي انتهت بسبب التسرع، ليعيش على ذكراها، ويموت دون أن يتزوج:
(إنه زمن الصراخ، قد تبدو أجسادنا خائرة القوى، لكن فيها نبضاً للعشق يحيا، سترقص ثانية وفي عنفوانها تغني لتعبر عن أزمنة مضت واخرى قادمة).