سلام مكي
بعيدا عن النظرة المتطرفة للشعر والتي ترى أنه ذلك الكلام الذي لابد أن يسكب في قوالب معينة، وأي حرف يخرج من تلك القوالب، سيرمى خارج مملكة الشعر، أو تلك النظرة التي ترى أن الشعر هو ذلك الكلام الفسيح، الذي لا تقيده قوالب ولا أطر ولا محددات. فالشعر أكبر من أن تقيده أطر، وأسمى من أن يكون مبتذلا، مباحا للجميع. فالشكل أقل من أن يحدد شاعرية الكلام من عدمها، ذلك أن المضمون والبعد الخفي والباطن للنص، ومدى قدرته على استنطاق القارئ وتحريك مكامنه الخفية. إنه تجربة روحية خالصة، ينتقي الشاعر مفرداته من أعمق نقطة في روحه، ليصعد بها عبر كل جوارحه وجسده، لتخرج بعدئذ لفظة جميلة، أنيقة، تنفذ إلى من يتلقاها دون عناء أو قلق. قارئ الشعر العربي، وتاريخه، يجد مفارقة مدهشة حقا، ففي الوقت القريب، كان الشكل وأعني بها نظام الشطرين، عائقا أمام انطلاق الدفقات الشعرية للشاعر، ومانعا من وصوله إلى نشوة شعرية خالصة، يمكنه من خلالها الوصول إلى ذروة عطائه الشعري، بعيدا عن التكلف والتصنع. ذلك أن التصنع في الشعر يقتله أو يضعفه على أقل تقدير. وعندما تجاوز شعراء الحداثة الأولى ورواد التغيير، الشكل وكسروا النمط الذي كان سائدا منذ أول قصيدة كتبت. ومن ثم مجيء رواد الحداثة الثانية، الذين توسعوا في ذلك التغيير إلى تهديم الآلية التي يكتب بها الشعر، وتفتيت القوالب الجاهزة التي بمجرد صب الكلمات فيها، ستلحق بمملكة الشعر، بصرف النظر عن قيمة تلك الكلمات، ومدى قدرتها على التأثير في المتلقي. فكتبت ما سمي بــ ” قصيدة النثر” إلى جانب قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر.
المفارقة الأخرى، أن قصيدة النثر تلك، رغم أنها حررت الشاعر من القيد الثاني في كتابة الشعر، وأباحت له سلوك كافة المسارات، وعطلت كافة النتوءات التي قد تعترض الفورة الشعرية للشاعر، رغبة في إشباع رغبته في كتابة الشعر. ورغم هذا، نجد أنها أي قصيدة النثر، ليس كفكرة وإنما كتطبيق، ساهمت في العودة الى المحنة الأولى وهي محنة الشعر، ولكن من زاوية أخرى، من زاوية أنها مكنت كل من هب ودب، في ممارسة الكتابة وإلصاقها بالشعر، بدعوى أنها تنتمي إلى قصيدة النثر، تلك النمط من الكتابة الذي ينتمي إلى الشعر، دون الحاجة الى الوزن والقافية كما يرى بعضهم! وللأسف هنالك من يبارك ويهلل لما يكتب تحت تلك اليافطة وينجز دراسات وينشر مقالات نقدية في صحف رصينة عن تلك التجارب. أما دور النشر الربحية والتي احتلت غالبية منافذ النشر، تنشر لهؤلاء بكل رحابة، وتكتب على أغلفة الكتب كلمة” شعر” . والأدهى من هذا، تقدم تلك الكتب الى اتحاد الأدباء لغرض نيل العضوية وقد يحصلون عليها. يقول الكاتب والشاعر شاكر لعيبي في كتابه” الشاعر الغريب في المكان الغريب: إن انفلات قصيدة النثر من صرامة القواعد المدرسية جعلها موطنا لهذا الاستسهال وملجأ للممارسات التجريبية غير المكتملة والتمارين الكتابية من كل نوع. ويضيف: إن قصيدة النثر فن صعب للغاية لأنه لا يسمح باسم الحرية والانفلات من القيود المدرسية الصارمة إلا بالذهاب للتفتيش عن جوهر الشعري ولقاء الشعرية الصافية. فهل تمتلك المطبوعات التي توزع على انها قصيدة نثر تلك الشعرية الصافية التي يقصدها لعيبي؟ هل يحاول كاتب تلك النصوص أن يسمو بنصه إلى الشعرية ويلتمس جوهر الشعر؟ أم إن مجرد تقطيع الكلام تشبها بالشعر الحر يجعل من الكلام ينتمي إلى جنس الشعر، مثلما كان مجرد ضبط الوزن والقافية يجعل من الكلام شعرا؟ لقد مورس القتل على الشعر قديما واليوم، يتكرر الأمر، لكن بطرائق مختلفة، وما أكثر قتلة الشعر هذه الأيام؟