بغداد ــــ الصباح الجديد:
يقال بأن الشاعر عندما يكتب، فإنه يغترف من ينبوع عميق في داخله، يختار أنقى وأحلى الألفاظ والكلمات التي تشبه الماء العذب، فيخرجها الى النور، ليروي بها ظمأ روحه. وذلك الينبوع ليس دائم الخضرة والتفجر، فلابد أن يأتي يوم، ويجف، أو يغور ماؤه. فلماذا لا يعترف كثير من الشعراء بهذه الحقيقة؟ لماذا لا يدرك بعضهم أن قريحته الشعرية ممكن أن تنضب وتنتهي؟ لماذا يصر الكثير من الشعراء على الاستمرار بالكتابة رغم تراجع مستوى تلك الكتابة؟ هل يمكن أن نجد نموذجا لشاعر تنحى عن الشعر عندما وجد أن استمراره لا جدوى منه؟ أسئلة توجهت بها الصباح الجديد لعينة من الشعراء والكتاب في محاولة للإجابة عنها.
هلال كوتا/ شاعر
أجد ان العدد قليل جداً – أو قد يكون شبه منعدم – ممن يفكر في ثقافة التنحي عن كتابة الشعر قبل الاساءة لمنجزه بين الشعراء في العراق، فالشاعر العربي بصورة عامة لا يمتلك ثقافة الادارة الناجحة لمنجزه لذا تجده يتخبط في اخر العمر او عند النضوب الشعري ، فلا احد منا يمتلك ثقافة وادارة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو ، على سبيل المثال ، الذي ودع الشعر مبكراً وحينما أدرك حجم الإساءة لمنجزه فيما لو استمر. وهذا ينطبق على الكثير من غير العرق العربي والذين تساءلوا ما جدوى ما نكتب ولماذا نستمر حينما احسوا ان رسالتهم في الشعر اكتملت ، وهذا ما اقول عنه ان الشاعر يوحى اليه كالانبياء وكثير من الانبياء انتهت مدة تكليفهم وعادوا الى وضعهم بين الناس ، لذا حينما يدرك الشاعر وصوله لهذه المرحلة عليه ان يكتفي بما وصل اليه ، وان كان النتاج قليلاً ، لان رسالته اكتملت والإصرار على المواصلة ما هو إلا عملية تهديم لما بناه ، وكما يقول احد الشعراء: ان الشاعر القصيدة الأول وما بعدها من نتاج إنما هو تلوين ، وربما كثرة التلوين يضيع ملامح اللوحة بالكامل.
عدم وجود هكذا ثقافة ربما يعود سببه لتخوفه من نسيانه أو مخافة طمس منتجه إن لم يواصل الكتابة ولكن هذا الخطأ كبير فلو كانت العملية بالعدد لما ظهر هذا الكم الهائل من الشعراء على مدار السنين وحُفظت اسماء شعراء القصيدة الواحدة.
في الآونة الأخيرة سمعنا وقرأنا لأسماء مهمة في خارطة الشعر العراقي تسيء لمنجزها عبر الاصرار على مواصلة كتابة الشعر الذي يفتقر الى أبسط مقومات الشعر او ما يتنافى مع طبيعة المجتمع من كسر قيم وتجاوز المحظور ، وذلك كله من اجل صنع دهشة أو اثارة الرأي العام.
لنكون اكثر عقلانية وبعيدا عن النرجسية الخداعة ولنتفق على أنه لا يوجد شاعر جيد – بالمطلق – بل يوجد نص جيد وآخر رديء ، وفي الوقت ذاته هنالك شاعر يُعول عليه واخر لا يُعول عليه. وبرأيي أرى أن ما يُكتب اليوم من شعر هو اساءة للأدب العربي ، ففي الآونة الأخيرة اصبح الشعر تجارة لبعض الاسماء المهمة والتي تكاد ان تكون مدارس شعرية – وهذا التجارة جلبتْ الرديء ، لذا نسمع ان الشاعر الفلاني اصبح يصدر مجموعتين شعريتين في العام الواحد من اجل التزامات مالية مع دور النشر وبالمحصلة هذا الكم لا ينسجم ما وصله إليه من منزلة ، لذا نجد اسماءً مهمة تقف على أبواب دور النشر من اجل النشر بالمقابل وكأن القضية أصبحت تجارة.
ابراهيم سبتي/ كاتب وناقد
الشعر روحية متجددة ، ولمّا كان الشاعر يكتب بإحساس متفرد تطغى عليه لغة سابحة في فضاء الابتكار، فان الشعر هو المعبّر عن كل المشاعر التي تهيم في الارواح . يمكن للشاعر ان يؤجل البوح الشعري مؤقتا ليتجه الى جنس ادبي آخر ، ولكن ليس بمعنى العزوف والانسحاب والتنحي لمصلحة ذاك الجنس الادبي الذي ربما استهواه اكثر من الشعر . الشاعر والشعر متلازمتان فيهما وهج الكلمة وروحها وبالتالي هو ضمير يتكلم ويبوح ويقول . فليس من العجب ان يتجه الشاعر لكتابة رواية مثلا او قصة قصيرة او نقدا ، فذلك من حقه لأنه يرى التمكن والاقتدار في داخله ويرى انه يدخل هذه العوالم بثقة المبدع ولكنه لم ينسحب او يغادر نقطة اشتغاله الشعرية الاولى . كثير من الشعراء ، اجدهم يتكئون على الحائط ينظرون للآخرين المتوجهين بمهارة وطموح نحو تسلق سلم المجد والتفوق ، فيطلقون التهم الجاهزة بحقهم وهو دليل عجزهم ولا يغادرون الحائط حتى اخر العمر ، اولئك ربما لم تعجبهم المواصلة والتحدي والتنافس ولن يعجبهم الشعراء المبدعين الذي دخلوا المنافسة . ارثي لهم بصراحة فهم يتنحون مبكرا ولم يعد بإمكانهم المواصلة . التنحي من الشعر هو نضوب الموهبة او العثور على بديل دون موهبة تذكر او العزوف عن المتابعة والقراءة . واعتقد ان في قاموس الادب لا يوجد شاعر سابق ، بل يوجد شاعر قليل الموهبة والحس الشعري . مع ان كلامنا لا ينطبق على اسماء شعرية عراقية هائلة اكتسحت الفضاء الشعري بموهبة خلاقة وابداع متفرد ، فكتبوا وتخلدت كتاباتهم وقصائدهم. هم ذخيرتنا ورصيدنا الشعري العراقي وليس الذين اعلنوا الانسحاب والتنحي دون رجعة بصمت مطبق دون استخدام ثقافة التنحي التي تجيز له ذلك.
ان المواهب الشعرية من حقها ان تبدع في مجال آخر لكنها تبقى اولا واخيرا في خانة الابداع الشعري لها. حضورها وتألقها وعلى الشاعر او الاديب. عامة امتلاك ثقافة التنحي ان وصل به الامر الى ذلك والاعلان عنه مع اني اشك في ذلك التوجه كثيرا.
حمدان طاهر المالكي/ شاعر
من المعتاد في الوسط الثقافي أن الشاعر والروائي ومثله القاص يواصلون الكتابة إلى آخر العمر , وساعة التوقف عن الكتابة هي ساعة الموت كما يقولون , ولا أعرف لماذا يربطون الموت الذي هو قضاء حتمي على كل إنسان بموضوع الكتابة , إنه أمر مختلف كما أرى , صحيح أن الكتابة فعل إنساني إبداعي يرتبط بديمومة الحياة وجمالها , وهي على الأغلب أي الكتابة تمرين على قهر اليأس والإحباط , ومحاولة لتخيل حياة أخرى , ولكن ماذا لو أن هذا الشاعر , الروائي , القاص , لم يعد لديه ما يقدمه , وبعبارة أخرى إنه لم يستطع أن يتجاوز أعماله التي قدمها إلى القراء , هل يصر على مواصلة الكتابة بأعمال مكررة , وماذا لو أن أعماله الجديدة هبطت ووصلت إلى درجة بدائية , في الغالب الاستمرار هو ما نراه دائما , ودونك المكتبات والأرصفة الممتلئة بهذه الكتب التي لم تعد تستوقف أي قارئ . من الضروري على كل مشتغل في هذه المجالات الإبداعية ملاحظة تجربته بعيون القراء والمشتغلين في الشأن الثقافي من شعراء وكتاب ونقاد , والانتباه لكل الملاحظات التي تقال من أجل كتابة واعية وحقيقية وغير مكررة , قد يسمع من هذا وذاك الإطراء ولكنه إطراء مشوب بنفاق ومجاملات غايتها غير سليمة . ماذا لو توقف الشاعر أو أي كاتب خمس سنوات أو حتى عشرة ومتابعة أعماله الضرورية مع البقاء على تماس عن طريق القراءة , وماذا لو توقف نهائيا حين يشعر بأن ما كتبه كاف وعليه المحافظة على صورته الجميلة في أعين القراء , أجزم أن هذا الاختيار خير له ألف مرة من البقاء في نفس المكان الذي انطلق منه , يمكنني أن أعطيك مثالا عن الاعتزال وهو شاعرنا الرائد الكبير بلند الحيدري حين اعلن اعتزال كتابة الشعر , في النهاية لم يتغير الأمر كثيرا , بقي بلند هو ذاته ومازالت أعماله الشعرية تقرأ , ومثال أوروبي هو الروائية والكاتبة المجرية آغوتا كريستوف حين أصدرت عددا من الروايات , وحين سألت لماذا لاتكتبين الآن قالت : لم تعد لي كلمات لأقولها , في النهاية هي ليست دعوة للتوقف عن الكتابة أو ممارستها بقدر ماهي بيان صارخ ضد التكرار والغثيان الذي تصدره المطابع من كتب شعرية وروائية , إنها دعوة للتأمل فيما نكتب ولماذا ..