ابراهيم سبتي
التركيز على بناء الشخصية في النص القصصي ، يُعد اضافة مهمة للقصة بكل تفاصيلها واحداثها وانعكاساتها ومكابداتها ان اعتبرنا ، الشخصية احدى ركائز النص دون منازع وهي القادرة على المناورة في منطقة اشتغال الكاتب الذي يحرض على تقديمها بأوصاف خاصة . وكلما اوغل الكاتب في رسم معالم شخصياته ورسم صورها كدالة محركة للأحداث ، فمؤكد سينتج عنه نصا مقنعا فيه شدّ للقراءة وبالتالي الدخول الى فضاء النص من باب اكثر اتساعا ورؤية وانبهارا. القاص انما رحمة الله ، يقتنص شخصياته بدقة ويسبغ عليها هالات من الغرائبية والوصف والصور والمديات الاكثر اقناعا وقبولا كي تخرج حاملة الهم القصصي دون ان يتبعثر الاهتمام الى انزياحات اخرى قد تشتت الهدف الموضوع امامها فتغدو غير منسجمة مع ما مخطط لها.
ففي مجموعته القصصية « وأسألهم عن القرية « ثمة صراعات مخفية احيانا وظاهرة في الكثير من المواقف لشخصيات اتخذت من الواقع مشغلا حيويا وملعبا واسعا دون حدود لتحركها وتفكيرها المنصب لتحقيق ذواتها المهمشة والمستباحة والمستلبة . فهي تعاني الخوف والرهبة والبحث الدائم والاغراق في الامنيات والتخيّل الملازم لها . في قصص المجموعة ، لا شخصيات منتفخة بفعل السعادة ولا من الثراء او الطمأنينة والرخاء. اكثرها تعاني وتركض خلف الالم لا خلف الاستكانة البعيدة ومهمومة بصورة ابدية وغارقة في بؤسها المؤبد وغرائبيتها . وجدتها تلعب ادوارا مختلفة ، متحيرة في كيفية الرصد و تأشير الامنيات التي تسعى للحصول عليها .
« شعر عازف الكمان بالمضايقة .. بدأ اهل القرية بمحاصرته ، تجويعه ، ارهابه ، طرده من سكناه الذي استأجره الى اجل غير مسمى . لقد نثر الفتنة في قلوب حيواناتهم فحصدوا التمرد . واوقع الضغينة بينهم وبين انهارهم ، شمسهم ، قمرهم …. « ص 35 .
تلك الامنيات التي ما تلبث ان تضيع حال الحصول عليها او هكذا يُفهم اول الامر . اشتغل القاص على ثيمات نعيشها بحيوية ونمر بها او نسمع عنها او نحن جزء منها على الدوام . يحركها بشغف اللعبة التي يسعى لان تكون ناطقة بأسمائنا جميعا لأنه جهد بكل ما يمتلكه من صنعة بأن نتأثر بها ونشعر انها تركض معنا وتستريح حالما نفكر بذلك . رتّب قصصه وفق انسياق دلالي واضح معنى وتجنيسا. ففي القسم الاول وضع قصصه القصيرة وفي الثاني وضع القصص القصيرة جدا . في القسم الاول ، نجد الحراك يستمر دون توقف وفق اشتراطات الفعل اليومي او الحدث المتصاعد . ثمة شخصيات تتأمل كثيرا وتتوجس وتتخيل او يتراءى لها . وبعضها ينمو بمعادلة المشاركة المؤثرة في صنع الحدث كما في قصص « عودة الحكّاء ، المعلم ، الهتر ، حارس المكتبة « فنجد ان الشخصية الرئيسية التي تمتلك مفتاح السرد ودواخله ، تتحرك بانفعالية ورؤى الخائف الحزين غير المستقر داخليا كما في قصة « حارس المكتبة « التي وضعتنا امام اختبار حبس الانفاس والترقب ، ففي بداية القصة نتفاعل مع الاربعيني الذي لا تتعدى احلامه البسيطة ، امنيات بتحقيقها لا اكثر.
« لم يفكر في الزواج ، عاش اربعين سنة في منزل ورثه عن ابيه ـ المعلم الشهير في المدينة ـ المثقف ، الكاتب ، صاحب الغرفة التي كان يجلس فيها لساعات منشغلا بالكتابة والقراءة . « ص 39 .
فنكون معه ، نتعاطف ونترقب متى يفتح غرفه ابيه بأنفاسنا اللاهثة ونتأثر بما يقوله لأبيه في التحاور بينه وبين روح والده المتوفي . ولكن سرعان ما نتفاعل ونتعاطف مع ابيه وفقا لمدلولات التأثر والتأثير ، فنكون معه ضد ابنه لأنه كان مقنعا في حواراته وجعلنا نقف مشدوهين . ولكن بمرور القصة ، وجدنا انفسنا نتخلى عن الاب ونعود لنتعاطف مع الابن الذي صار واحدا منّا ويفكر مثلنا ويحلم نفس احلامنا. انها براعة رسم وتخطيط الشخصية التي استطاع انمار رحمة الله ان يبنيها وفقا لمحددات الصنعة التي سادت جميع نصوص المجموعة الثلاثين او اكثر قليلا. اما قصص القسم الثاني ، فترتب عليها ان تحيا بثقة وتفاؤل مع انها تشبه كثيرا ما جاء في قصص القسم الاول من استلاب فكري وروحي ، فجاءت مأزومة تبحث عن حلول ضائعة ولكنها قد تدنو منها الا ان الظرف القاهر ربما لا يسمح لها بذلك « التضاؤل ، الاضراس ، المتسول ، التوأم وقصص اخرى « . يمكن القول بأن القاص انمار رحمة الله وجد فسحة من الكتابة ، تجعله ينطلق حرا بسرد ثيماته بمهارة الصنعة التي وجدته فيها في قصص متفرقة اخرى له منشورة لم يضمّها في مجموعة بعد. كذلك ما قرأته له من قصص في مجموعته الثانية بائع القلق التي عثرت فيها على اسلوب واحد وقاسم مشترك في نصوصه جميعها.