ابراهيم سبتي
تتميز القصة القصيرة المعاصرة ، بكونها تنساق مع مجريات الواقع ومكتوبة برمزية وسرد عال تعبر عن مدى تأثر الكاتب بها وتأثيره على الاخرين. من هنا شكلت انماطها الحديثة مثار جدل وقبول لدى الكثيرين من المتلقين والنقاد على حد سواء، لان القصة القصيرة هي فن المهارة واللغة الناعمة الهادئة. والقص الحديث يستخدم بؤرة الصراع الحياتي اليومي والمعاش التفصيلي للأيام التي تسجل حضورها وفق معطيات الحدث وترسيماته المؤثرة التي تجعل الكاتب ينهل كثيرا من مشاهداته وليس بما يتخيله ، فالخيال مطلوب ولكن الحدث متاح له بوصفه اثرا يستوجب التوقف عنده وتأمله . فشكلت الاحداث بؤرة الصراع الرئيسة في الكتابة القصصية باعتبار ان واقعنا حافل بما يحتاجه الكاتب فيضفي عليه الرمزية والجمالية المطلوبة للتشويق .
في قصص ” خزانة النسيان ” لباقر صاحب ، نقرأ بلغة هادئة احداثا ساخنة ويوميات قد سجلتها الذاكرة فسطرّها الكاتب على ورق السرد الماسك لعناصر الصنعة التي كان فيها واضحا لما يريد الافصاح عنه . قصص المجموعة ، تنوعت بين الخذلان والخسارات مثل قصص ” حب سيابي ، شيطلائكية ، هاملت في غرفتي ، برزخ من كوابيس ، اعظم القصص ” وبين الامل والترقب والبحث عن حلول مثل قصص ” الاب في لعنته الانيقة ، مغافلة ، بانوراما الوداع وقصص اخرى ” . فكانت متعددة المحاور وقد منحها القاص وعيا سرديا ينمّ عن ادراك بمسؤولية واجادة صنعته . تتوزع القصص على تجربة الكاتب السردية والتي كتب فيها هذه المجموعة القصصية ، فصارت تجربة اخترق فيها حاجز التقولب الاجناسي في الادب ، وهو شاعر قد اصدر ثلاث مجموعات شعرية . فالشاعر الذي يكتب السرد سيميل الى شعرية اللغة والتعامل معها بحساسية مفرطة لمصلحة النص اولا واخيرا واخراجه بصيغة الادهاش والتأمل والتشويق . فكانت اللغة مكتوبة بطريقة الجمل المكتنزة بالمعنى والتأويل فيدرك القارئ بأن الكاتب يريد الاخبار عن وقائع وتفاصيل اكثر ولكنه استخدم اللغة اداة تعويضية للاختزال.
ان الكاتب السارد الشاعر ، يتعامل مع المفردة تعاملا له خصوصيته ولا يكتب الا اذا كانت تلهب الاحاسيس والمشاعر وبالتالي التعامل مع نصوص اجاد صنعها وادخل فيها الاقناع لدى المتلقي الباحث دوما عن الابهار في الكتابة وخاصة السردية . توزعت قصص المجموعة على قسمين الاول هو القصص القصيرة والثاني القصص القصيرة جدا ، فكانت اللغة هي المعيار بينهما لان الرشاقة مهمة في انجاز القصة وبالتالي مهمة في صنع القصة القصيرة جدا . في بعض القصص التي احتوتها المجموعة ، اجد طعم الخسارة وانا اتقصى المصائر ، فكانت حب سيابي واعظم القصص ، مثالا قريبا على تذوق هذا الطعم . الوصول الى الاماني لم يكن سهل المنال ولا متاحا وخاصة ان الخذلان يلاحق الشخوص وهم يتربصون للإيقاع بأحلامهم الضائعة التي صارت عبئا وبعيدة التحقيق . ” وجاء الرد .. عاد اليه كتابها الجديد ، وانفرد به في خلوة ، ليقرأ رسالتها الجوابية .. صعقته ثلاث صعقات .. فقد كتبت بخط سيء ، اسفل رسالته ذاتها من دون كلمة شكر او عرفان ” ص 11 . ان الظاهر في قصص المجموعة ، يضمر اشياء وخوالج اخرى لم يظهرها الكاتب وترك تحليل المعنى والدخول في العمق الى المتلقي الحذق الذي يستطيع التحليل وفق معطيات كل قصة.
بينما نجد انه قال شيئا مهما عمّا يجري في المحيط اليومي وانجر نصا من انثيالات الواقع وكان نصا بالغ التأثير حين نتعمق به . انه الموت الذي نتذوقه في الشوارع وفي الازقة وفي المجهول ، الموت الراكض نحونا دائما. اصغاؤه اثمر عن احساسه باقتراب كائنات لا مرئية ، سمع دبيبها متسللة من جدران القبر بجهاته الاربع ، ومتحولة الى كثافة صوتية؛ اذ تلقي عليه التحية بوصفه ضيفا كريما وهي جاءت لمواساته ، اندهش كثيرا ، حين اخبروه بقصصهم ” ص 81 . منح القاص لنصوصه فسحة تأمل حين تغرق في عمق الاحداث التي صارت مادة ثمينة للكتابة وفق منظور الاستفادة من المجريات اليومية وجعلها نصا يقدم للقارئ وبلغة واسلوب يجعلها اكثر قبولا . ان السرد اعطى مدلولات متعددة ونحن نخوض في المجموعة التي اختار الكاتب باقر صاحب عنوانا لها جامعا لقصصها ودالا مؤثرا لها.