فوزي عبد الرحيم السعداوي
قبل ثورة ١٤ تموز ٥٨ كان كامل الجادرجي أحد أهم الرموز الوطنية ان لم يكن أهمها وقد كان يكفي لأي إجراء أو اتفاقية ان يعلن الجادرجي انها تمس استقلال العراق لكي يجري رفضها من الجمهور، وقد كانت صحيفة الحزب الرسمية تملك حضورا قويا في الشارع كما ان الحزب الذي يرأسه الجادرجي
وهو الحزب الوطني الديمقراطي كان له تأثير خاص على فئات محددة في المجتمع.
كان الجادرجي ضد تدخل الجيش في السياسة ولا يؤيد أي دور له في تغيير النظام سيما وهو صاحب تجربة سلبية مع انقلاب بكر صدقي في العام 1936 حين ساهم في حكومة الانقلاب قبل ان يتراجع بكر صدقي عن وعوده ما اضطر الجادرجي للاستقالة.
لكن الجادرجي وافق على التعاون مع العسكريين لاسقاط النظام الملكي بعد يإسه من تحقيق تغيير ديمقراطي وقف دائما نوري السعيد عائقا دونه، كانت وطنية الجادرجي هي وطنية البورجوازية العراقية التي كانت تتعالى على الوطنيين الآخرين، فبرغم تحالفه مع الشيوعيين فقد كان يسميهم أهل السراديب، وعلى الرغم من ذلك فقد كان الحزب الوطني الديمقراطي ملاذا للكثير من العناصر اليسارية التي استظلت بحماية الجادرجي.
كان الجادرجي مسكونا بتحقيق الديمقراطية كأولوية لعمله السياسي وعلى حساب أفكار العدالة الاجتماعية التي لم يوليها الكثير من الاهتمام برغم التزامه الاشتراكية الفابية.
لقد صرح الزعيم قاسم أكثر من مرة انه ينتمي لمدرسة الجادرجي الوطنية لكن ذلك لم يكن دقيقا وقد كان لقاسم ان يختبر ذلك في مواقف لاحقة فقد كان قاسم مشغولا جدا بفكرة العدالة الاجتماعية ورفع المستوى المعيشي للفقراء، ولقد مثل الجادرجي البورجوازية الوطنية ويمكن القول ان الحزب الوطني الديمقراطي هو أصدق حزب في تمثيله لفئته الاجتماعية بخلاف الحزب الشيوعي وحزب البعث، ويعود ذلك لعدة أسباب منها مبدأية الجادرجي وصرامته فهو مثلا رفض انتماء الطلبة للحزب على اساس انهم غير مستقلون اقتصادياأ وكان قاسم منحازا إلى الفقراء برغم انه في التصنيف الطبقي يمثل البورجوازية حيث ينسب إليه القول اننا يجب ان نرفع من مستوى الفقراء دون الاضرار بالأغنياء.
مع ذلك وبرغم العديد من القرارات لصالح الطبقات الفقيرة فانه يمكن القول ان الجادرجي سياسيا أقرب إلى الشيوعيين من قاسم الذي في مرحلة من حكمه تصرف على أساس ان العدو الرئيس لنظامه هم الشيوعيون وسوف نتعرض لذلك بالتفصيل في منشور لاحق.
عندما أعلن العسكر عن انتهاء النظام الملكي وبداية عهد جديد قام حزب الجادرجي بتأييد الانقلاب والمشاركة في حكومته الأولى بوزيرين الأول هو محمد حديد وزير المالية الذي مارس نفوذا وتأثيرا كبيرا على الزعيم فكان وراء العديد من القرارات والمواقف أما الثاني فكان هديب الحاج حمود وزيرا للزراعة، وكان أمل الجادرجي بدور كبير في الوضع الجديد لكن العسكر سيطروا على كل المناصب ورفضوا النداءات التي دعتهم للعودة لثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين، حيث يرى الكاتب الدكتور عبد المجيد حسيب القيسي ان الجادرجي ظل ينظر بغير ارتياح للزعيم قاسم الذي رأى انه أحق منه بالمنصب وبالشعبية، وفي ١٥ تشرين الأول ١٩٦٠ طلب الجادرجي من وزيري الحزب الاستقالة احتجاجا على سياسات الزعيم قاسم .
وقد استقال محمد حديد لكنه لم يكن مقتنعا بهذا الموقف اذ كان يرى ضرورة الاستمرار بدعم الزعيم قاسم لأن البديل عنه سيء، وأثناء سفر زعيم الحزب للعلاج خارج العراق طلب الزعيم قاسم من محمد حديد تجميد عمل الحزب في مسعى لمحاصرة الحزب الشيوعي الذي قدم طلبا لاجازته حسب قانون الأحزاب الجديد لكن قاسم منح الإجازة إلى مجموعة صغيرة من الشيوعيين المنشقين بزعامة داود الصائغ، وقد جمد حديد عمل الحزب الوطني الديمقراطي وهو ما كان موضع عتاب وجدال بين حديد والجادرجي الذي عاد إلى بغداد.
كانت وجهة نظر الجادرجي ان قرار التجميد يساعد قاسم في حربه ضد الحزب الشيوعي وهو أمر لا ينبغي أن نكون طرفا فيه وعلى خلفية المواقف المتناقضة بين الجادرجي وحديد انشق حديد عن الحزب وأعلن عن تأسيس الحزب الوطني التقدمي الذي ضم مجموعة من كبار رجال الأعمال المستفيدين من الوضع مثل خدوري خدوري ونائل سمحيري في حين التفت العناصر اليسارية حول الجادرجي.
في أواخر العام ١٩٦٢ أراد قاسم لقاء الجادرجي بحجة الرغبة بالحصول على مشورته في كتابة دستور دائم كخطوة على طريق إنهاء المرحلة الانتقالية والتأسيس لحياة حزبية فتواصل أحد مساعديه بالجادرجي الذي تحجج بأكثر من سبب لعدم تلبية دعوة قاسم للقاء آخرها كان عدم توفر واسطة نقل حيث أجيب بالاستعداد لجلبه من منزله ثم اعادته بعد انتهاء اللقاء، فاسقط بيد الجادرجي.
حضر الجادرجي إلى وزارة الدفاع فاستقبله قاسم بالترحاب وللأسف فإني أنقل شيئا مما دار في اللقاء اعتمادا على ذاكرتي حيث سمعت تفاصيل اللقاء من والدي في العام ١٩٦٤ وهو يتحدث لزائريه في مستشفى الكرخ الجمهوري اثناء علاجه من مرض السرطان الذي أودى بحياته بعد شهور.
كان قاسم مهتما بإقناع الجادرجي بما حققه من انجازات في حين كان الجادرجي جافا في تعقيباته حيث طلب من قاسم تسليم السلطة للمدنيين واراحة نفسه، وعندما بدأ بالحديث عن محاولة اغتياله مبرزا قميصه المدمى لم يتردد الجادرجي بالتعبير عن قرفه وبدون أي مجاملة، بعد ذلك قرر قاسم ان يأخذ الجادرجي في جولة ببغداد حيث ما ان أقترب من البوابة حتى بدأ الهتاف والتصفيق الأمر الذي استفز الجادرجي الذي قال لقاسم ماهذا؟ وإلى متى يبقى هذا الوضع؟ أجاب قاسم وهل تعتقد اني وراء ذلك أجابه الجادرجي نعم لكن قاسم قال ماذا أفعل الناس يحبونني ويعبرون عن حبهم، وفي السيارة وأثناء التجوال في بغداد لاحظ الجادرجي وجود راديو ترانسستور بيد قاسم يفتحه بين وقت وآخر فقال الجادرجي تحمل الراديو كي تتأكد من عدم وجود عمل مضاد، اترك كل شيء وأرح رأسك سلم السلطة للمدنيين، وهنا أجابه قاسم مازال الوقت مبكرا لذلك الا ترى حجم المخاطر والمؤامرات على الثورة، ولم يثمر اللقاء عن نتيجة فقد رفض الجادرجي التعاون في موضوع الدستور.
روج أنصار الجادرجي للقاء بصفته انتصارا الجادرجي في حين نقله أنصار قاسم كدليل على رغبته بالتعاون مع الأحزاب السياسية التي لم تبد أي رغبة بالتعاون، بعد شهور حدث انقلاب ٨ شباط وقتل الزعيم عبد الكريم قاسم وقد علق الجادرجي على لائميه بان قاسم لم يك جادا، ولاحقا أصدر جاسم كاظم العزاوي وقائع اللقاء في كراس.