فوزي عبد الرحيم السعداوي
بعد ثورة ١٤ تموز أصدر الزعيم عبد الكريم قاسم عفوا عن الملا مصطفى البارزاني وأتباعه الذين شاركوا في الأعمال المسلحة ضد النظام الملكي، وبالفعل عاد البرزاني إلى العراق في ٥ تشرين ١٩٥٨ بعد ان قضى في المنفى ١٣ عاما (الاتحادالسوفياتي)، وصل البارزاني إلى البصرة بالباخرة ومن هناك توجه برا إلى بغداد حيث لقي ترحيبا واسعا نظمه الشيوعيون في كل المناطق التي مر بها من البصرة في طريقه لبغداد.
أتذكر جيدا اننا كنا نهتف: زعيمنا الأول عبد الكريم قاسم .. زعيمنا الثاني مصطفى البارزاني، أقام البارزاني في بيت نوري السعيد بالصالحية بقرار من الزعيم قاسم.
كان البارزاني يتصرف كزعيم أو رئيس فكان يستقبل الشخصيات والفاعليات السياسية، وقد خصص له الزعيم قاسم راتبا شهريا قدره ٥٠٠ دينار وهو مبلغ كبير في تلك الايام، غادر البرزاني إلى كردستان ثم بعد فترة عاد إلى بغداد ليديم العلاقة مع الزعيم لكنه وجد جفاءا واستقبالا باردا فتوجس شرا وعاد مسرعا إلى كردستان خشية الاعتقال.
ان المصادر التي أوردت هذه الاخبار لم تذكر لماذا حدث الجفاء بين الشخصيتين حيث تشير مصادر أخرى إلى ان الجفاء حدث مباشرة بعد فترة من وصول البارزاني لبغداد قادما من الاتحاد السوفياتي ولاسباب غير سياسية حيث كان لكلا الشخصيتين توقعات مختلفة من الآخر فالزعيم كان يرى في نفسه صاحب فضل كبير على البارزاني سيما وان قرار العفو كان قد لقى معارضة من الرجل الثاني في الدولة عبد السلام عارف اضافة إلى نظرته المتضخمة لنفسه وهو ما جعله يفترض موقفا وسلوكا من البارزاني يناسب ذلك وهو مالم يكن متاحا بسبب شخصية البارزاني الذي كان قد أصبح أسطورة تمشي على قدمين.
لاتخبرنا المصادر ماذا فعل البارزاني في كردستان قبل ان يعود لبغداد ويفاجا بمعاملة قاسم كما ذكرنا
مصادر أخرى تؤكد أن البارزاني خلال تلك الفترة أجرى اتصالات واتخذ اجراءات استعدادا للتمرد على بغداد وهي فيما يبدو كانت مرصودة من قبل قاسم الذي كان له عيون وحلفاء كرد.
أعلن البارزاني الثورة المسلحة ضد بغداد في أيلول ١٩٦١ في ظروف معقدة وللتاريخ نقول ان ذلك لم يكن عادلا ولا في صالح العراق ولا حتى الأكراد وحوله شبهات عديدة، حيث الزعيم قاسم كان يخوض معركة شرسة مع الشركات النفطية كذلك كانت أزمة الكويت قد تفجرت في التاريخ نفسه،ان العديد من الباحثين يذهبون إلى ان تحرك البارزاني كان بالتنسيق مع الدوائر الغربية التي كانت تخوض صراعا مصيريا مع قاسم وهنا يجب ان نستحضر شخصية البارزاني وخلفيته القبلية التي تتعارض مع الثوابت الوطنية وتعتمد التكتيك دائما بعيدا عن اي ستراتيجية او مباديء والتي وصلت به لاحقا للتنسيق مع البعث في العام ١٩٦٣ قبل انقلابهم في ٨ شباط ثم مشاركته في حكومتهم بعد ٨ شباط.
ثمة حادثة ملفتة ذات دلالات هامة لم يتوقف عندها أحد وانا اذكرها للمرة الثانية، يقول السياسي الكردي والضابط في الجيش العراقي فؤاد عارف في مذكراته والتي للاسف تركتها في بغداد لذلك لا أتذكر تاريخ الحادثة، انه قام بدور وساطة بين البارزاني والزعيم قاسم حيث هو يرتبط بعلاقة صداقة مع الزعيم من ناحية وبعلاقة مع البارزاني فتم الاتفاق على اللقاء في منطقة محددة، برغم أن البارزاني عبر لعارف عن عدم ثقته بقاسم، يقول فؤاد عارف ان البارزاني لم يحضر في الوقت الذي جاءت طائرة مقاتلة قصفت مكان الاجتماع!!.
شخصيا أثق في أقوال فؤاد عارف وان كنت مندهشا من هذا السلوك المفترض لقاسم والذي يتضمن معاني خطيرة أولها إلقاء الضوء على جانب غير معروف من شخصية قاسم حيث ان صحت الحادثة فانها تدعونا إلى اعادة النظر في أحداث عديدة حدثت للفترة من ١٤ تموز ٥٨ حتى ٨شباط٦٣، الأمر الآخر هو ان هناك صفحات مخفية في العلاقة بين البارزاني والزعيم قاسم وان جزء منها على الأقل ليس في صالح البارزاني
الخلاصة:من تتبع سيرة الشخصيتين والأحداث التي مرت وردود أفعالهم يمكنني القول ان الزعيم قاسم كان مخلصا وصادقة في توجهه لإقرار حقوق الشعب الكردي وهو الأمر الذي بدأ بتضمين الدستور المؤقت عبارة الشراكة بين الشعبين العربي والكردي … بالمقابل فان البارزاني كان مسكونا بفكرة الزعامة التي عمل عليها منذ الأيام الأولى لقدومه من الاتحاد السوفياتي وقد عمل كل شيء لتكريس هذه الزعامة لما في ذلك خرق عدد من الثوابت الوطنية سيما وهو القائل اني مستعد للتعاون مع الشيطان من أجل قضيتي.