محمود الزيباوي
مع تفشّي وباء كورونا القاتل، تحدّث أستاذ كرسي الاستراتيجية البحرية بكلية الحرب البحرية الأميركية، جيمس هولمز، مؤخراً، عن هذا الداء الغريب، وأشار في حديثه إلى الوباء الكبير الذي تفشّى في العصور القديمة في أثينا، ونصح الصين بأن تستقي العظة والعبرة من هذه الواقعة التاريخية التي اشتهرت باسم طاعون أثينا”.
يُعتبر “طاعون أثينا” أقدم وباء مدمّر وصلتنا أخباره من خلال التاريخ المدوّن، وهو ليس بطاعون، ويظل إلى اليوم أحد الألغاز الطبية الكبيرة التي احتار العلماء في تحديد طبيعتها. وصلت أخبار هذا الداء الفتّاك عن طريق المؤرخ الإغريقي الشهير ثوسيديديس، الذي شهد تفشيّه الرهيب ونقل وقائع هذا التفشّي في كتابه “تاريخ الحروب البيلوبونيسية”، وهي الحروب التي بدأت في عام 431 قبل الميلاد واستمرت 27 سنة، وفيها واجهت أثينا وهي في أوج مجدها عدوّها إسبرطة، وذلك تحت قيادة بريكليس، رجل الدولة الكبير الذي قام بإنشاء الأكروبوليس، وبنى أربعة مبانٍ عظيمة الشأن، وهي معبد البارثنون، وبوابة بروبيليون، ومعبد أثينا، ومعبد أريخثيون.
رافق ثوسيديديس الحروب البيلوبونيسية، وتعرّض للوباء الذي انتشر في أثينا في تلك الحقبة، ونقل بعد ربع قرن رواية حيّة بالغة القِيمة عن تلك الأيام المرعبة التي عاشتها المدينة العريقة، “وكان غرضه الواضح أن يقدم وصفًا دقيقًا للمرض حتى يمكن التعرف عليه إذا عاود الظُّهور مرة أخرى”، كما اشار الباحثان، سوزان سكوت وكريستوفر دنكان، في كتابهما “عودة الموت الأسود”. بحسب شهادة ثوسيديديس، ظهر هذا الداء أولاً في بلاد الحبشة، ثم انتقل إلى مصر وليبيا، قبل أن يصل إلى نواح عديدة من العالم اليوناني، ومنها جزيرة ليمنوس، شمال شرقي بحر إيجة، وذلك في بداية صيف 429. تفشى هذا المرض في مدينة بيرايوس، على بعد بضعة كيلومترات من جنوب العاصمة أثينا، يوم كانت هذه المدينة “ميناءً ومحطة لكثير من المسافرين والتجار الذين جلبوا المرض من الخارج”، ووصل “إلى عَلْيَاء المدينة حيث لَقِيَت عائلات بأكملها حَتْفَها، وكان معدل الوَفَيَات بين الأطباء وآخرين مِمَّن كانوا مصاحِبين للمرضى مرتفعة بدرجة واضحة”.
يروي المؤرخ ان المصابين “كانوا يشكون فجأة من آلام حادَّة في الرأس وتلتهب عيونهم ثم يبدؤون في السُّعال دمًا. كان يعقب هذا السعال عطس وآلام في الصدر، ثم تقلصات في المعدة، وقيء وإسهال شديدان وظمأ لا يُروى. وكان الجلد يحمَرُّ، وتطفح عليه بُثور صغيرة وتقيُّحات مفتوحة. كان الضحايا يعانون من حمى شديدة ولم يكونوا يتحملون الغطاء، مُؤْثِرين أن يظلوا عُراة. ولما أضْناهم الظمأ، انتابتهم رغبة عارمة في الإلقاء بأنفسهم في المياه الباردة، وقفز كثيرون في صهاريج المياه العمومية. معظمهم فقد صوابه، ومات في اليوم السابع أو الثامن من بدء هذه الأعراض. ومن بين الذين تعافَوا، فقد كثيرون أطرافَهم أو ذاكرتهم أو بصرهم”.
أدرك الأثينيون بسرعة بأن هذا المرض مُعدٍ، فتحاشى الأصحّاء منهم الاحتكاك بالمرضى، وتوقّفوا عن إقامة شعائر الدفن، وتركوا جثث الموتى في الشوارع والمعابد، غير أن الداء استمرّ بالتفشّي في المدينة بسبب الحرب المستعرة. في الواقع، خشي بريكليس من هجمات الإسبرطيين المتكرّرة، وأمر أهل الريف المجاور بالانتقال إلى داخل المدينة المحصّنة، فاكتظّت أثينا بعدد كبير من السكان الذين لم يكن لهم مكان للعيش فيها، وكانت يومها تحت الحصار، وكان الصيف حاراً، ممّا ساهم في انتشار العدوى. هكذا واصل المرض زحفه، ولقي بريكليس حَتفَه بعدما أصيب به. وعاد بقوة في الصيف التالي، بالتزامن مع حصارٍ آخرَ من الإسبرطيين، ثمّ خمد في شتاء 428، إلا أنه عاد وتفشّى مرة أخرى وأخيرة في خريف 427
أسهب ثوسيديديس في وصف هذا الطاعون الذي أصابه هو أيضاً، ونجا منه، وقال إنه أتى على حين غفلة بقوة بالغة وجرف ربع سكان المدينة بعدما وقف الأطباء أمامه مكتوفي الأيدي، وأكّد بأنّ عدد السكان لم يعد قط إلى ما كان عليه قبل هذا الداء. استعاد جيمس هولمز في زمننا، هذه الواقعة، التي تعود إلى التاريخ القديم، ورأى “ان الاختباء خلف الأسوار العالية التي تحيط بأثينا وميناء بيرايوس الواقع في منطقة أتيكا الإدارية، على بعد تسعة كيلومترات باتجاه الجنوب، أفضى إلى عواقب وخيمة، فوباء الطاعون انتقل عبر البحر الأبيض المتوسط إلى بحر إيجة من شمال أفريقيا بواسطة بحارة على متن سفينة تجارية كانوا قد أُصيبوا بالعدوى، وما أن اجتاح الوباء مدينة بيرايوس، حتى انتقل من جماعة من الناس إلى أخرى، داخل المدينة المكتظة بالسكان”.
احتار الخبراء في تحديد طبيعة هذا الداء الذي فتك قديماً بأثينا، وتبيّن لهم ان الأعراض التي وصفها ثوسيديديس لا تماثل أعراض الطاعون الدَّبْلِي، ولا أي مرض آخر من أمراض اليوم، والأغلب أنها أعراض لشكل من أشكال الطاعون النزفي. قبل الدخول في عهد هذه الأزمنة الحديثة، أُطلق على هذا الداء في القرون الوسطى اسم “طاعون أثينا”، وظلّت هذه التسمية شائعة في القرون التالية حيث استعاد العديد من الرسامين هذه الواقعة في لوحات تجمع معالمها بين الطاعون الإغريقي القديم والطاعون الذي عرفته أوروبا بأشكال مختلفة في مراحل عديدة من تاريخها.
في منتصف القرن السابع عشر، صوّر الرسام الفرنسي فرنسوا بيرييه “طاعون أثينا” في لوحة من الحجم الكبير دخلت متحف مدينة ديجون للفنون الجميلة، وفي هذه الزيتية ظهر عدد من المرضى والمحتضرين في الواجهة، وظهرت جثث الموتى في الخلفية، وبدا في الأفق ملاك يحلّق فوق الجموع. في طرف هذه الخلفية، ظهر جمع يرفع أيديه باتجاه نصب كبير يمثل اسقليبيوس، إله الطب في الميتولوجيا اليونانية الرومانية. وبحسب التقليد المتوارث، حضر الإله الشافي بشعره المتدلي على كتفيه وذقنه الطويلة، حاملاً عصا يلتف حولها ثعبان، وهي العصا التي ترمز للطب في زمننا.
وفي هذه الحقبة كذلك، صوّر الرسام البلجيكي، ميكايل سويت، هذا الطاعون في زيتية دخلت متحف لوس انجليس، وفيها ظهر حشد كبير من المرضى والمحتضرين والموتى في ساحة شاسعة تحدّها أدراج تقود إلى بناء من الطراز الإغريقي. ونقع على زيتية إيطالية من محفوظات غاليري نيفيان في أقليم أود الفرنسي، تماثل بعنصرها هذا التأليف، وهي من نتاج نهاية القرن السابع عشر، وفيها تتكرّر مشاهد السقم والاحتضار الجماعي بأسلوب الكلاسيكية الباروكية الذي ساد أنحاء أوروبا في هذه المرحلة.
*عن موقع المدن