فائزة مصطفى
تتوالى الإعلانات عن تأجيل أو إلغاء المهرجانات والعروض الفنية في كل أرجاء فرنسا خاصة العاصمة باريس بسبب فيروس كورونا، فبعدما كانت التعليمات الوزارية تقتصر على الفضاءات الثقافية التي تتسع لخمسة آلاف شخص، أصبحت تشمل حتى تلك التي تضم أقل من ألف شخص، كما تسببت مخاوف العدوى من الوباء في إغلاق أكبر متحف في العالم «اللوفر»، إلى جانب العشرات من كبريات القاعات الشهيرة التي لا تدر على الخزينة الفرنسية أموالا كبيرة فحسب، بل تصنع برامجها تقاليد ثقافية في البلد، وما إصابة وزير الثقافة فرانك ريستر بالعدوى في البرلمان، إلا نقطة في قائمة الكوارث التي أضرت بهذا القطاع، لا سيما وأن المؤسسات الأدبية والفنية تعد شريانا حيويا لإنعاش اقتصاد دولة تلقب ببلد الثقافات وعاصمة الفنون.
قطاع الثقافة يتكبد خسارة ما يقارب 250 مليون يورو
قبل نحو أسبوعين، لم يصدق الزوار الفرنسيون والأجانب أن تظل بوابة متحف «اللوفر» مغلقة، وظلوا تحت المطر ينتظرون بالقرب من الهرم الزجاجي المقلوب ضمن طوابير طويلة، غير آبهين بما كانت تتناقله وسائل الإعلام من عين المكان عن إجراءات صحية اتخذتها السلطات لتفادي انتشار عدوى كورونا، تقضي بإقفال أشهر معلم أثري وفني في العالم. افتتح المتحف أبوابه بسرعة مجددا، وفرض إجراءات احترازية كتوزيع المطهرات والمعقمات على الموظفين الذين لديهم احتكاك مباشر بالزوار، لكن النقابة صوتت بالأغلبية على ضرورة تعليق العمل مؤقتا، كما طالبت بالتحلي بالمسؤولية من أجل سلامة الزوار والموظفين معا، ليشترط المتحف بدءاً من الاثنين الماضي الدخول إليه عبر حجز إلكتروني فقط، علما أن المتحف يستقبل أكثر من 40 ألف زائر يوميا، وهو ما يعادل عشرة ملايين زائر سنويا، 75 بالمئة منهم من الأجانب حسب الإحصائيات الرسمية، فيما أفلت معرض استثنائي عن ليوناردو دافينشي من تداعيات الوباء، بعدما اختتم نهاية الشهر الماضي محققا رقما قياسيا من ناحية الزوار، باستقطابه أكثر من مليون شخص. توالت الأخبار بإلغاء مواعيد ثقافية قارة في أجندة الفرنسيين، كمعرض باريس للكتاب الذي كان مقررا تنظيم دورته الأربعين بين 20 إلى 23 من الشهر الجاري، القرار الذي وصفه المدير العام لنقابة الناشرين بيار دوتيلول بمثابة طعنة في قلب صنّاع الكتاب، لكون هذا الحدث هو أهم موعد أدبي في السنة، ورأى دوتيلول أن إلغاء المعرض كان ضروريا لحماية 4 آلاف ناشر و160 ألف زائر من خطر الإصابة بالعدوى. ألغيت مناسبات جماهيرية أخرى مثل: أكبر فعالية حول الهيب هوب، وباريس مونغا للرسوم، وعروض قاعة الزينيت وبارسي الشهيرتين، وأهم الحفلات لفنانين عالميين، كما أقفلت 97 صالة عروض عملاقة تتسع لأكثر من 5000 متفرج، وتقرر إرجاء معرض ضخم بعنوان «آخر وجبة لمدينة بومباي الرومانية» إلى أجل غير مسمى، وبررت إدارة متحف الإنسان ذلك لاستحالة استحضار القطع الأثرية من إيطاليا بسبب تعليق الرحلات الجوية، وأُجل صالون الفن الحديث إلى نهاية مايو/أيار المقبل، وكذلك كرنفال للفن المعاصر بمدينة ليون الذي استقطب العام الماضي 40 ألف شخص، وسيقام نهاية جوان/حزيران المقبل.
وفي خضم هذه التغييرات الطارئة، وقعت الأكشاك والمواقع الإلكترونية التابعة للهيئات الفنية في تخبط غير مسبوق، بين تأجيل البرامج أو إلغائها وبالتالي تعويض التذاكر للزبائن، وزاد الأمر تعقيدا بعد تشديد إجراءات الوقاية بمنع التجمعات التي تتسع لألف شخص إلى غاية منتصف الشهر المقبل، مما تسبب في تعديل برمجة العروض السينمائية واللقاءات الفكرية والورشات الإبداعية والمعارض التشكيلية في كل أنحاء البلاد.
ويرى المتابعون أن مجال الموسيقى الكلاسيكية هو الأكثر تضررا، بعد تعليق نشاطات فيلهارمونيا باريس التي تتسع لـ2400 مقعد، وأوديتوريوم مدينة ليون المخصص لـ2100 شخص، وأوبرا مارسيليا التي تأوي 1800 متفرج، أما قصر فرساي الذي يعد أهم قبلة سياحية في فرنسا، فقد قرر توفير 1000 تذكرة إلكترونية فقط يوميا، بينما شهدت المتاحف تناقصا في إقبال الناس عليها خاصة في العاصمة باريس مثل: القصر الكبير الذي سجل تراجعا بنسبة 25 بالمئة، وقصر طوكيو بنسبة 75 بالمئة. كما انخفضت مداخيل قاعات السينما بنسبة 20 بالمئة الشهر الماضي.
في محاولة لمواجهة الخسائر الكبيرة التي يتكبدها القطاع الثقافي بسبب حالة الهلع التي أثارها الفيروس، طالبت النقابات الفرنسية الخاصة بالمنتجين والموزعين ومشغلي السينما ومنظمي المهرجانات من السلطات بالمزيد من الشفافية حول المرض، وطالب الفنانون والتقنيون وزارة الثقافة بإصدار بيان رسمي يحمي حقوقهم ويضمن لهم تعويضات، وبعقد ما يسمى لقاءات أزمة مع وزارتي الصحة والثقافة.
ومثلما أثر فيروس كورونا سلبا على الاقتصاد والسياحة في فرنسا، فإنه يضرب أيضا عصب الصناعة الثقافية إذا ما علمنا أن هذا القطاع ضخ نحو 45 مليار يورو في الخزينة سنة 2019.
وقدرت النقابات الموسيقية والمهرجانات خسارة ما يقارب 250 مليون يورو نتيجة إلغاء الفعاليات الفنية منذ الأزمة الصحية، كما تأثرت الحياة الثقافية في هذا البلد أيضا بسبب تظاهرات السترات الصفراء، ثم حركة الإضرابات الواسعة لوسائل النقل في ديسمبر/كانون الأول الماضي. ولعل المستفيد الوحيد من مصائب كورونا رواية «الطاعون» للكاتب الفرنسي الجزائري الشهير ألبير كامو التي نشرت عام 1947، إذ تحقق في هذه الفترة مبيعات ضخمة في فرنسا وكذلك في إيطاليا التي تعد بؤرة انتشار الفيروس، ويعيش سكانها حجرا صحيا مشابها لأحداث الرائعة الأدبية التي تدور أحداثها في وهران الجزائرية قبل أكثر من سبعين عاما.
- عن موقع ضفة ثالثة