محمد جبير
هل يشكّل انتقال السارد من فضاء مكاني «بيئة النص»التي هي نواةِ مروياته السردية ، إلى بيئة أخرى تكاد تكون وسيطا أو حاضنا لخطاب منتج النصّ، خللاَ في بنية النظام السردي؟ أم عنصراً مضافا ًإلى مهارات ذلك المنتج فيزيد من إبداعات إنجازاته السردية؟
قد يرى قارئ نصّ «مسيو داك» للقاص والروائي «نزار عبد الستار» اختلافا كبيراً عن نصوصه السردية السابقة، من حيث البنية السردية «الحكائية» والنظام السردي الذي سارت في نسقه تلك الحكاية السردية، وقد يتبادر الاختلاف أو المغايرة السردية من خلال استبدال الفضاء المكاني «العراقي» في السرديات السابقة، والفضاء المكاني لنصّ «مسيو داك» وهو «لبنان» ولا أرى فيما حدث هو استبدال فضاء مكاني وإنّما هو خلق بيئة نصّية.
عملية الخلق هذه جاءت كشرط من متطلبات الحكاية التي تشكّلت تفاصيلها من خلال الانتقال الحركي للمكان الساكن من بغداد إلى بيروت لإضفاء طابع الحركية العلنية للحكاية في «لبنان» والسرّي في الانتقال من بغداد إلى بيروت، تلك الحركية في شقّيها العلني والسري أضفت عنصر التشويق على الحكاية التي جاءت في مستويين.
الأول: المستوى الأسطوري.
الثاني: المستوى الواقعي.
في المستوى الأسطوري هناك حكاية واقعية تبنى على ضفاف حكاية أسطورية، بمعنى أن الكاتب يسعى من خلال سرديته هذه الى أسطرة الواقع المعاش في علاقة الحبّ والتحدّي لما يعيق الحياة أو يسعى الى اجتثاث الجمال لتحقيق مصالح خاصة فردية أو كونية على مستوى الفرد «الإنسان» أو على مستوى «المؤسسات» الدول.
هذه البنية التي تسعى إلى تعشيق الواقعي بالأسطوري في النصّ السردي هي واحدة من أبرز سمات السردية لدى «نزار عبد الستار»، ولم يخرج عن ذلك إلّا في روايته «الأمريكان في بيتي»،فقد كانت نواتها واقعة مداهمة القوات الأمريكية لبيته في الموصل أثناء عمله في بغداد، اتّخذ منها بؤرة مركزية للحكاية السردية التي هيكلت النصّ وأحاطت ذاتها بحكايات ساندة من أطراف مدينته الموصل وماجرى من وقائع أثناء تواجد الأمريكان في تلك المدينة.
فقد جاء توظيف أسطورة المقاتلة اليونانية «ميفا» لإنتاج حكاية معاصرة عن الحشرة التي تفتك بمزارع الكرز في لبنان، قد تكون هذه هي الحكاية المركزية للنصّ والذي تنتعش على ضفافها مجموعة حكايات تساند وتضيء جوانب وتفاصيل من حكايات أخرى، وذلك من خلال الرحلة التي تقوم بها العالمة العراقية «ربى» التي اكتشفت مضادّاً لهذه الحشرة.
كان عنصر الزمن في هذه السردية ضاغطاً على النصّلأنّ الانتصار على التوحّش يرتبط بنجاح إقامة مهرجان الكرز في منتصف حزيران، فيما تسعى الحشرة على إبادة تلك المزارع الجبلية في غضون أيام، هذه الحركية المتسارعة والضاغطة على حركة وانفعال وتوتّر الشخصية المركزية، تسري بشكل غير مباشر إلى المتلقّي الذي يلاحق التفاصيل مثلما يلاحق الآخرين من الشركات العابرة للقارات « ربى « للاستيلاء على الاكتشاف المضاد وتعطيل استخدامه في هذا الوقت لتدمير اقتصاديات دول أخرى.
ربى المحاربة العراقية تريد وتصرّ على الانتصار من خلال هزيمة المقاتلة اليونانية، هذه هي جدلية خطاب سردية «نزار عبد الستار» في «مسيو داك»،إذ ينتصر للجمال والفرح، وهو الخطاب المركزي الذي يشغل ذهنه في معظم سردياته السابقة.
وشكّل مشهد الافتتاح السردي الذي جاء بمنزلة العتبة الكاشفة للنصّ عنصراًأساسياً في إضاءة بؤرة النصّ، وجملة التحفيز للتعرّف على تفاصيل الحكاية، وهذا المشهد هو نصّمقتطع من السردية العامّة للحكاية، إلّا أنه حتى في اقتطاعه من متن الحكاية ووضعه كجملة ابتداء أعطاه خصوصية نصّية خارج الحكاية بوصفه نص عتبة افتتاحية مستقلّة تشكّل مفتتحاً للدخول إلى عالم الحكاية.