مما لا شك فيه؛ اننا قد اهدرنا الكثير من الوقت والامكانات البشرية والمادية والقيمية، وحصدنا سلسلة من الخيبات، في مهمة بناء مشروع الدولة الوطنية ومؤسساتها الحديثة. في الحقبة الملكية (1921-1958) وبالرغم من التطور الذي احدثته في العديد من مجالات الحياة، مقارنة بما كان عليه الحال زمن الامبراطورية العثمانية ، الا انها أخفقت في الموقف من قضايا الحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية، لم تلتفت الى اهمية التأسيس لنظام ديمقراطي يسمح للعراقيين بابراز أفضل ما لديهم. مع الجمهورية الاولى (1958-1963) تحقق الكثير في مجال الكرامة والتشريعات التي تنتصر للعدالة الاجتماعية، الا انها أخفقت في المهمة التي اهملتها الحقبة الملكية، أي التحدي الديمقراطي وما يتطلبه من شروط، وعلى رأسها القوانين الخاصة بوجود الاحزاب والتنظيمات السياسية والمهنية، ذلك الخلل المميت الذي سمح بتسلل قوى الردة، التي اسست لما عرف لاحقا بـ “جمهورية الخوف” حيث تم سحق كل ما له علاقة بالحريات والتعددية السياسية والثقافية والمهنية.
يمكن القول ان تاريخ العراق الحديث قد شهد ولادة جيلين من الاحزاب؛ الاول مع ولادة العراق الملكي وكان يغلب عليها الطابع الاجتماعي والوطني، انتهى دورها ووجودها بعد زوال العهد الملكي، حيث بسطت الاحزاب الآيديولوجية هيمنتها على العهد الجديد (الجمهوري). ابرز ممثلي تلك الموجة هما الشيوعي والبعث والتنظيمات الاسلاموية والاحزاب الكوردية ذات الهيمنة الاسرية، ومع زوال النظام المباد ربيع العام 2003 عبر المشرط الخارجي، وجد العراقيون انفسهم أمام فراغ سياسي وتنظيمي، سارعت قوى ما قبل الدولة الحديثة لبسط هيمنتها على مساحاته المهجورة، كما رافق تلك الهرولات ظهور عشرات “الاحزاب” والكيانات الكارتونية (اجازت المفوضية المستقلة للانتخابات أكثر من 200 كيان منها) نتيجة كل ذلك نجده فيما انحدرت اليه العملية السياسية وجولاتها الانتخابية (المحلية منها والاتحادية) ولا سيما الاخيرة التي حملت الينا أحد أكثر البرلمانات عجزا وفشلاً. لقد حملت الاحتجاجات الاخيرة، قائمة مطالب واسعة ومتعددة وقد رافق ذلك غضبا واستياء شديدين من الاحزاب جميعها، وكانت الهتافات تدعو لزوالها، وهذا مؤشر واضح على ان المرحلة المقبلة تقف أمام تحدي ولادة الجيل الثالث من الاحزاب، على انقاض ما تبقى من احزاب الجيل الثاني.
ستجد الاجيال الجديدة عاجلا أم آجلا نفسها، أمام ضرورة امتلاكها لنوع من الاحزاب، تضع نصب عينيها جدول اعمال واهداف، مختلف ومتخفف من حمولات وشعارات الماضي. المعطيات تشير الى مرحلة مفتوحة امام العديد من الاحتمالات، لا سيما وان استعدادات المجتمع الموضوعية والذاتية، لمواجهة هذا التحدي (ولادة الجيل الثالث من الاحزاب) ما زالت محدودة. صحيح، ان الدعوات لـ “تشكيل كيان سياسي يمثل الاحتجاجات” قد ارتفعت من بعض ساحات التظاهر والاعتصام، الا ان تحويل تلك الدعوات الى واقع، ليس بالامر اليسير أبداً، اذ ستحتاج الى أكثر من الحماسة والعنفوان الضروريان لمثل هذه الاعمال التدشينية، فمن دون المعرفة العميقة بتفصيلات ما جرى لاسلافهم والتسلح بالخبرة والوعي، كي يكونوا امتدادا لافضل ما في ارث العمل السياسي من قيم وتقاليد؛ يعني مواجهة سلسلة من الاخفاقات والخيبات على طريق ولادة الجيل الثالث من الاحزاب السياسية، في وقت برهنت فيه “الاحزاب” الحالية عن عجز تام عن مواكبة حاجات مجتمعها وعصرها واجراء ادنى اصلاح لمستنقعات حياتها الداخلية..
جمال جصاني