داود سلمان الشويلي
عندما قال الجاحظ: «إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ»، فقد كان يعرف الكتّاب كيف هو مزاجهم، وكيف يكتبون، وكيف يختارون النوع الأدبي. وفي وقته كان الشعر هو مالئ الدنيا وشاغلها، لذا قال قولته هذه.
وفي دراستنا هذه سنتناول فنا آخر غير الشعر هو فن السرد بأنواعه المتعددة والمتنوعة، ونطبق عليها مقولة الجاحظ في أن الأنواع السردية مطروحة في الطريق، والشأن هو في تخيّر واحد من هذه الأنواع السردية لنكتب فيه ما نريد أن نكتب.
الكاتب السردي مخيّر في أي نوع من الأنواع السردية المطروحة أمامه، ومن ضمن هذه الأنواع السردية نوع الرواية القصيرة.
ومن المتعارف عليه بين النقاد والدارسين عن الرواية القصيرة، أنها هي التي تغلب عليها تقنية الرواية، بلا تفاصيل دقيقة زائدة، مما يجعلها سريعة الإيقاع. وفي الوقت نفسه فيها تقنية القصة الطويلة، واشتملت على خصائصها أيضا.
وقد حدد الدكتور أبو المعاطي خيري الرمادي في كتابه «الرواية المصرية القصيرة في الربع الأخير من القرن العشرين» خصائص الرواية القصيرة (ص52 – ص55) بـ:
حجم متوسط. استهلال ذو طبيعة خاصة. لغة مكثفة. ازدواجية الدلالة. نوعية خاصة من الأبطال. حدث مركزي واحد. وجهة نظر خاصة للواقع. وصف موجز. مكان وزمان لهما طبيعة خاصة. ملمح السخرية. إثارة الأسئلة.
وفي هذه السطور سنتحدث عن رواية «حالة شجن» للروائي أحمد رجب شلتوت، الفائزة بجائزة إحسان عبدالقدوس عام 2008، من منشورات الثقافية للنشر والتوزيع بتونس 2019. من خلال تدارس الخصائص التالية: الحجم، واللغة، والوصف، لكي لا تطيل الدراسة.
الحجم:
يحدد د. الأنباري حجم الرواية القصيرة، فيقول: هو الذي «لا يمكن النظر إليه على أنه حجم لقصة قصيرة، ولا يمكن النظر إليه على أنه حجم لرواية طويلة، وهو حجم غير محكوم بعدد معين من الكلمات، فالفن لا يخضع لمثل هذه القيود الصارمة». هذه الرواية، بنسختها المقرونة بنظام الوورد، تقع في 75 صفحة، في كل صفحة بين ثلاثة أسطر واثني عشر سطرا، وبمجموع كلمات يساوي 7504 كلمة. ومن يقرأها يجد فيها خصائص الرواية وفي الوقت نفسه نَفَس القصة القصيرة/ الطويلة. أي أنها تقع في برزخ السرد بينهما، الحد الفاصل بين النوعين السرديين. أي ضمن تحديد الدكتور لحجمها في خصائص الرواية القصيرة. وقد يكون هذا الشكل متأتيا من تطبيق الخصائص الأخرى للرواية القصيرة التي ذكرناها أعلاه.
اللغة:
في هذا النص الروائي نقرأ لغة تحفل بالتكثيف، والاقتصاد، والإيجاز، لا زيادة فيها، أو استطراد. إنها لغة اقتصادية، تتصف بالجمل القصيرة، المركزة، وفي الكثير من الأحيان الرامزة إلى شيء ما. «فأتت الساعات تلو الساعات على موعده ولم يعد». و»يتمنى لو يفعلها هو ودنيا. لو يطيران بعيدا». «توقفت السيارة أمام بابنا. قفز غريب. علت الزغاريد. تجمع الجيران مهنئين. لوح المعلم عاشور بيده محييا قبل أن ينطلق بسيارته مبتعدا.”
ولو كان النص مكتوبا كرواية طويلة، اعتيادية، لرأينا كيف كان الكاتب يتعامل في موضوعات إتيان الساعات تلو الساعات، والموعد الذي لم يعد. وكيف يتعامل مع موضوعة تمنياته لو كان يطير هو ودنيا. وكيف توالت أفعال التوقف، والقفز، وعلو الزغاريد، وتجمع الجيران، والتلويح باليد. هذه الأفعال جاءت عباراتها بجمل قصيرة كالبرق. وغير ذلك من الأمثلة على اللغة المكثفة، والموجزة، المستخدمة في النص، والتي تقربها إلى لغة الشعر، إلّا انها ليست شعرا.
إن استخدام الروائي اللهجة العامية المصرية في الحوار خاصة، لا ينقص مما قلناه عن اللغة في الرواية، لأن حديثنا منصب على متن الرواية بدون الحوار، وعلى الرغم من ذلك جاء الحوار مقتصدا ومكثفا.
الوصف:
للوصف دور كبير ومتميز عند كتابة الرواية الطويلة، الاعتيادية، إلّا أنه في الرواية القصيرة يأخذ منحى آخر، هو الإيجاز، أو البتر، وهذا الوصف الموجز يجب أن يكون في محله المطلوب، الموظف بعناية، وبدقة عالية، وغير تفصيلية. إنه لا يدعو إلى الملل، وفي الوقت نفسه، لا يدعو إلى الكتابة المبتورة غير الإبداعية، وهذا يخدم اللغة المكثفة للنص، والحجم الصغير للرواية. ولم نلتق بوصف للمكان، أو الزمان، أو للشخصيات، في الرواية هذه، وإنما التقينا بنتف قصيرة عن ذلك.
ومن الظواهر التي يمكن الخروج بها عند قراءتنا لهذه الرواية هي أن الروائي استخدم حروف الهجاء في تسمية فصول روايته، وهذا يذكرنا بالحروف المقطّعة التي ابتدأت بها سور القرآن، وكذلك في بعض الروايات العربية، مثل الروائي العراقي عبدالخالق الركابي في روايته «سابع أيام الخلق» عندما قسم حروف كلمة «الرحمن» في تسمية فصول روايته، ولا أرى في ذلك أي رمزية، أو فائدة سردية تذكر، سوى أن الرواية، وكما أخبرني الروائي، قد أخبرت بخبر وقوع الأحداث من الألف إلى الياء، أي انه أخبر عن أحداثها جميعا.
إن الروائي في «حالة شجن» قدم رواية اختار أن تكون بلباس قصير، من ناحية اللغة الاقتصادية المكثفة القريبة من لغة الشعر، ومن ناحية الوصف الذي جاء مقتصدا أيضا، ولم يكن فيه إسهاب ممل ومخل بنظام الرواية، ومن خلال حجمها الصغير الذي حمل موضوعها حالة معينة أراد الروائي أن يعبر عنها بهذا النوع السردي، فكانت «حالة من الشجن.”
*عن ميدل أيست أون لاين