بمناسبة تحول مقولة « الشعر ديوان العرب» الى أطلال بعد ان كانت صرحا شاهقا، يراه الأعمى قبل البصير، لابد من الوقوف قليلا عند مدلولات كلمة» ديوان» فهي تحيلنا الى مكان قبل أي معنى رمزي أو مجازي، وهذا المكان في العادة، يمثل نقطة محورية ومركزية لباقي الأمكنة، فبالبعد الشعبي له، هو المكان الذي تجتمع فيه رؤوس القبيلة، وتصدر القرارات الحازمة، وهذا المكان يخضع لقوانين صارمة لا يمكن لأي أحد تخطيها، وإلا نال ما لا يرضيه. فعندما كان الشعر ديوان العرب، كان يمثل نقطة مركزية في حياتهم، وموجها دائما لأفكارهم ومعتقداتهم ولسان حالهم. اليوم وبعد التطورات الكبيرة في كل شيء ومنها الشعر، وتراجع مكانته ثقافيا وشعبيا، نجد أن هنالك تغييب متعمد للشعر، سواء في المنتديات الثقافية أو المنابر الإعلامية. تلك المنابر التي أخذت على عاتقها تنميط الوعي العام، ومحاكاة الحالة الاجتماعية السائدة، لدرجة انها أخذت تبشر بكل ما ينساق إليه الأفراد بصرف النظر عن القيمة الثقافية تلك الأفكار والتصورات. وكان هذا على حساب الثقافة الرصينة التي تمثل الأداة الفاعلة والمؤثرة في تفعيل الوعي العام وطرد الجهل وتفتيت العبودية الاجتماعية والدينية وتفكيك الخطاب غير العقلاني للجماعات والأفراد. ومما ساهمت المؤسسات الإعلامية بإشاعته هو التنافس فيها بينها على بث الخطاب الشعبي من خلال استضافة شعراء شعبيين ومنحهم مساحات واسعة وفي ذروة المتابعة والساعات التي يكون المتلقي مستعدا للمتابعة، وتلك اللقاءات التي تجريها فضائيات مهمة لها متابعون كثر، وتحظى بنسب عالية من المشاهدات على مواقع التواصل الاجتماعي، تتعمد نقل الخطاب الشعبي والثقافة الشعبية، بشكل لافت وهذا يتم على حساب المثقف والثقافة. فحين يرغب مشاهد أو متابع بمعرفة الواقع الثقافي او الاطلاع على حديث لشاعر ما، عليه أن يلجأ الى محطات عربية كانت سبّاقة الى تعريف المشاهد العربي بالشاعر او المثقف العراقي، ولا نجد لقاءً واحدا لمثقف عراقي مهم في فضائية عراقية. بالمقابل، نجد مئات المقاطع المنتشرة في كافة المواقع والفضائيات لشعراء شعبيين يرصفون ألفاظا وعبارات ما أنزل الله بها من سلطان. هذا كله لإرضاء الذوق الشعبي العام والثقافة العامة التي تفضّل الشعبي على الرصين. الاعلام العراقي، يساهم وبشكل مقصود في تذويب الشخصية العراقية التي ساهم الشعر والنثر بتشكلها وصناعتها وصياغتها، وجعلها أسيرة أسماء معينة تحولوا الى نجوم بفضل تلك الفضائيات. المطلوب من الاعلام العراقي وخصوصا الفضائيات أن تعيد للشعر الاعتبار وان تمنحه مساحة كافية من الاهتمام مثلما تمنحه للشعر الشعبي. فمحاكاة الثقافة الرصينة والأدب الملتزم هو الذي يعيد صناعة الذوق العام وليس تكريس الشعر الشعبي وغيره من الأنماط الشعبية المختلفة.
سلام مكي