هل هناك صورة معيارية لمفهوم المثقف؟ وهل لهذا المفهوم فاعليته في التداول والقبول والنقد؟ وهل للمثقف ذاته حق الاختيار، والتمرد على الصورة والمفهوم، وأنْ يملك حريته الكافية ليكون بطلا، ومناضلا، ومتمردا أو صعلوكا؟
هذه الاسئلة قد تبدو مفارقة، لكنها تكشف في جوهرها عن محنة المثقف، عن قلقه، وخوفه، وعن هامشيته، وعن المساحات الضيقة التي يتحرك فيها، وعن علاقته الملتبسة بالسلطة، بوصف السلطة مالكة لحق التوصيف البريء والمشاكس.
صورة هذا المثقف تعرضت لكثير من الخرق والاضافة، حد أن البعض طالب بإخراجها من مرجعيتها الانثربولوجية، ووضعها في سياق يربط بين الثقافة والوظيفة، والوظيفة والخدمة، وجعل هذه الروابط شروطا للقبول بالممارسة الاجتماعية والاخلاقية وحتى النضالية.
ربما نحن العرب اكثر حاجة الى اعادة مثل هذا التوصيف، والى النظر المثقف في ضوء وظائفه، وفي اطار ممارساته ومواقفه، وقدرته على المواجهة، وعلى الاشتباك النقدي مع مفاهيم التغيير والتجاوز، وأنّ يملك سيرة وتاريخا تتُيح له ممارسة الدور الاستثنائي والمتعالي في المعارضة وفي احداث التأثير وغيرها، فالمثقف العربي تاريخيا ظلّ بلا توصيف، وأنّ ما تركه لنا الشعراء والفقهاء والحكواتيين والبلاغيين لا يعدو أن يكون هامشا تصنعه السلطة او ترفضه، ودون ذلك فأنّ توصيفات المعارض والسجين والمارق والزنديق ظلت شائكة، وخاضعة لحساسيات ما تقترحه السلطة والجماعة والطائفة..
ولعل من اخطر توصيفات المثقف اليوم، هو تعالقه مع مفاهيم اكثر اضطرابا مثل الثورة والادلجة والحزب، وتضخمت تعالقات هذا التوصيف بعد الانهيار الفاضح للادلجات الكبرى، ولخراب الحكومات العربية التي كانت تشتري المثقف كالمعاطف لأغراض الحمايات السياسية والاعلامية والدعائية.
قد تبدو الخدمات الثقافية سهلة ومُتاحة، أو هكذا تصورها البعض في سياق تجيير تلك الخدمات لصالح الجهات التي تريدها، لكن واقع الامر يؤكد عكس ذلك تماما، فالخدمات الثقافية صعبة وخطيرة، وأن تاريخ المثقف العراقي ارتبط بتاريخ موازٍ للأضحيات والسجون والمنافي، وأن علاقته بالخدمات كانت محدودة، ولا تدخل الا في سياق ما هو اجتماعي وانساني واخلاقي، ورغم تورط بعضا من اصحاب الاجندات الثقافية فيها، فإن تظل بلا وضوح، ليس لنا ظاهرة سلبية كما قد يُفسّرها « البعض» بقدر ما أنها بلا برنامج أو اهداف، ولا تأثير عميق، لاسيما وأنّ الثقافة في جوهرها هي خدمة كبيرة معرفيا وجماليا وتعليميا وانسانيا..
العودة الى توصيف المثقف يعني الحاجة الى توصيف الثقافة ذاتها، والى تسليط الضوء على المشكلات الكبرى التي تعانيها، وعلاقة هذه المشكلات بالأزمات والصراعات السياسية، وبالعقد الايديولوجيا، وبالاستبداد الذي فرض قيودا على كل شيء، ومنها الثقافة، حتى بات الحديث عن الحرية وكأنه حديث عن الفنطازيا، لاسيما الحرية التي تتعلق بالأفكار، وبالقيم وبالاحتجاج..
قال المخرج الكبير بازوليني في سياق الكشف عن سر ثقافته «أعرف لماذا أنا مثقف، لأن الكاتب يحاول أن يلاحق كل ما يجري، أن يلِمّ بكلّ ما يُكتب، أن يتخيّل كل ما خفي عنه وكل ما لا يدور حديث بشأنه؛ يربط أحداثا متباعدة، يجمّع أجزاء متشظية وغير منتظمة ضمن إطار سياسي شامل، ابتغاء إرساء منطق حين يسود اللا منطق ويدبّ الخلط وتشيع الغرابة» ليؤكد لنا اهمية ان يكون المثقف حرا، وقويا وعارفا، وعميقا في معرفته، لكنه كان يؤشر ايضا لمدى خطورة ذلك، حين تكون السياسة ضده، واللا منطق الذي يسودها يصطنع الغرابة، لكي يتيه المثقف في الطرق، ولا يستدل على وجوده، إلّا عبر التخلي عن وظيفته الحقيقية.
العودة الى مثقفنا العربي والعراقي تفترض مواجهة، ليس لإعادة التوصيف، أو لوضع المثقف في السياق، بل لكي يمارس المثقف حضوره العلني في الواقع، فكل تاريخ هذا المثقف كان رهينا بالغياب، أو بالتضليل، أو بالخضوع الى توصيفات مهنية، كثيرا ما تجعله تائها وخاضعا وبعيدا عن جوهر الفعل الثقافي..
توصيف بازوليني ينطلق من جوهر فكرة المعرفة: أنا اعرف، وأن مهمته في هذه المعرفة هي ملاحقة الافكار، وليس الاخرين، وأن صناعة الجمال والمعرفة تدخل في سياق الملاحقة الاولى التي تعني تحرير الثقافي من الاوهام، وتأهيل علاقته الانسانية والفكرية لتكون أكثر فاعلية في اغناء واثراء السياسي والاجتماعي والتعليمي..
علي حسن الفواز