حين يدعم المتظاهرون حملة « دعم المنتوج الوطني» لم يتطرق أحد إلى دعم الصناعة الثقافية العراقية، وفي كلّ ميادينها المنسية، والتي فقدت أيّ دعم واسناد رسمي، حتى بات الأمر وكأنّ هذه الصناعة الاساسية في الحياة العراقية تلوذ بالصناعات المجاورة، بحثا عن مطبعة لطبع الكتاب العراقي، وعن معرض دولي أو عربي للمشاركة فيه، أو عن ناقد أو قارئ مجاور للتعريف به، و حتى ما يتعلق بصناعة السينما والدراما والمسرح والتشكيل، وهي مجالات كان المثقفون العراقيون سبّاقين الى ريادتها تركت للنسيان والغبار، ولتخيّلات» الحكومة» التي لا تعرف أن هناك « صناعة ثقافية» في العراق وتحتاج الى التخطيط والدعم والادارة والحماية.
هذه الصناعات تحتاج الى مسؤولية وطنية وثقافية، مثلما تحتاج صناعة السوق، والى الاعلان والمستهلك، وكل ذلك يتطلب وجود بيئة تتقبل وتتداول منتجات هذه الصناعة، عبر الثقة بها والتواصل معها، وإسنادها، فضلا عن حاجتها الى آليات العمل والمؤسسات و إلى قوانين للحماية، إذ أنّ مشروعية ونجاح أية صناعة تعتمد على وجود مَنْ يكفلها ومَنْ يعزز وجودها في سوق (بضايعي) ومعلوماتي يضجُّ بكل شيء.
تجارب العالم المتمدن في النظر الى الصناعة الثقافية يعكس وعي هذا العالم لهويته الحضارية، ولحاجاته من القيم الثقافية، ولأهمية أن يكون الفعل الثقافي في جوهر البناء المجتمعي والتنموي، بوصفه شرطا للمدنية والحضارة، وعلامة على رُقيّ مجتمعاتها، وهو ما يعني وجوده في جوهر النظام الاجتماعي والاقتصادي والاعلامي. ولكي يكتسب وجوده الواقعي فإنه يتطلب جملة من الاجراءات، والسياقات التي تتعلق بقوننة هذه الصناعة وحمايتها، وبوجود الارادة التي تحترم المشروع الثقافي وتروّج له عبر شرعنة نظام الحياة المدنية وعناوين ثقافاتها، وعبر تشجيع صناعاتها المتعددة بدءا من تأصيل قيم التعليم، وتوسيع مديات صناعة الافكار والفلسفات والفنون بتنوعها والمعارف وانتهاء بصناعة الكتاب.
في واقعنا العراقي تبدو هذه الصناعة غائمة، فلا وجود لدعم حقيقي لها، ولا حماية قانونية لها، ولعل ما يشفع لها هو تاريخها المدني الذي يمشي بقوة، ويجعل من الممارسة الثقافية وكأنها حماية للذات العراقية، ودفاعا عن مشروعها الانساني والجمالي، فما نراه في شارع المتنبي هو صورة للروح المدنية الثقافية، فلا دخل للحكومة في تصميم المشهد، وفي تبني أي مشروع حقيقي، ولا حتى ستراتيجية واضحة تخص تطوير البنية الثقافية في هذا الشارع، وفي تطويره ليكون مدينة ثقافية، أو حتى ادخالها في مجال الاستثمار الثقافي مثلما يحدث في بلدان كثيرة..
مسألة الحماية الثقافية ضرورة في حماية الذات العراقية التي تتعرض اليوم الى لعبة خطيرة في المحو، إذ وسط هذا الرعب والصراع، وصعود التيارات الأصولية والتكفيرية تتبدى الحاجة الى المشروع الثقافي، والى أهميته في المواجهة، وفي تحفيز قواه العميقة، وفي أنْ يكون تعبيرا عن وعي التحولات التي نعيشها، والتي نواجه الكثير من تحدياتها المرعبة، فالعالم الذي يحوطنا مسكون بوهم العودة المُضلِلة الى التاريخ، وهو ما يعني النزوع الى تدمير وتخريب الكثير من قيم التواصل والحوار والجمال، بما فيها القيم العقلانية التي تزخر بها صفحات ساطعة من هذا التاريخ..
إنّ تحمّل المسؤولية هو الخيار الفاعل، وهو الوعي بالرهان على ربط المشروع الثقافي بالتنمية، وبوضع الفاعلية الثقافية في سياق اجرائي، وضمن شبكة من التحققات التي تكفل الحراك الثقافي، وتُسهِم في انضاجه وفي تحشيد الرأي العام، ليكون جزءا من المشروع الوطني، و جزءا من معطياته وأسئلته، وباتجاه يمكن أن تتبناه الدولة ومؤسساتها، لأن مشروع الدولة المدنية مهددٌ أصلا، ولأنّ أخطار الارهاب والتكفير والعنف الأصولي بات من أكثر مظاهر الرعب الذي تصنعه الجماعات الارهابية، ليس لتهديد الدول فقط، وإنما لتخريب المجتمعات، وتدمير قيم التنوع والتعدد، وصولا الى تهديد قيم الديمقراطية والسلام الأهلي الذي يمثل الارضية التي يمكن أن تنمو فيه قيم الثقافة والحوار والمشاركة.
دعم المنتوج الثقافي ممارسة فاعلة للوعي التظاهري، ولإيجاد فضاء ثقافي حقيقي يستوعب الفعل الثقافي، ويعزز من مساره، تعبيرا عن وعي الحاجة، ووعي المشاركة، والثقة بالمثقف العراقي وبطاقته على الابداع والتميز…
علي حسن الفواز