الحديث عن فاعلية النقد، وعن اسئلته مثارا للجدل والاختلاف، ليس لأنّ النقد يعني تعددا في وجهات النظر أو في طبيعة المناهج التي يتم توظيفها في البحث والقراءة حسب، بل لأنّ النقد لم يعد بريئا من الايديولوجيا، وحتى العصاب، وأنّ تسلل التسريبات النسقية للايديولوجيا تتبدى من خلال طبيعة المعالجة النقدية، أو عبر الموقف الذي يمكن استخلاصه.
وبقطع النظر عن الاشتغالات التي باتت تضع الممارسة النقدية، وحتى الخطاب النقدي في سياق الدراسات الثقافية، فإن التوصيف الاجناسي للمعالجة النقدية تظل تهجس بما يعكس أثر التسريب النسقي فيها، وهو أمرٌ قد يُخلّ بموضوعية النقد أو مهنيته، أو ربما يدفع بعض النقاد الى اللجوء الى اشتغالات النقد الثقافي، بوصفها اشتغالات تٌعيدنا الى السياق، والى المؤلف، والى مايحمله النص في جوهره من مواقف ومن رؤى وافكار، حتى وإن كانت مؤدلجة، وهذا ما يخفف عن الناقد خطيئة الكذب النسقي، الذي قد يفتعله، أو قد يُبرره انحيازا لاستيهامات الايديولوجيا، و لأطروحات علم الجمال النمطي..
في اشتغالات النقد الثقافي لا توجد قصيدة نضرة وأخرى بشعة، كل ما في القصيدة هو لعبة كتابتها، تلك المسكونة بالنقائض، فهي تارة لعبة في التعري، وكلما أمعن الشاعر في(ستربتيزه) أثار الفضول والشغف والتواصل من حوله، وتارة أخرى هي تشبه تظاهرة عمومية تستغرقها اليافطات الثورية والرافضة أو المساندة، والتي تعتمد أيضا لعبة التهييج والتلذذ الإشباعي الذي تستحضره التظاهرات عادة..
كلا الصوتين تضعان القصيدة في الأفق، أقصد أفق قراءتها، والتمعن فيها بحثا عن الغائب والممحو، أو تلذذا بما تصنعه اللغة بوصفها بيت الكائن أو زاويته أو طاولته.
القصيدة النضِرة هي التي تخصّ تخيّلنا، والتي تدفعنا لإدراك ما لا يُدرك فيها، أو ما هو مُضمر في نسقها، وهذا ما يجعلها خاضعة لسياق فاعلية الحكم النقدي، بوصفه العتبة الاولى لفعل القراءة العميقة..
النضارة والتوحش ثنائيتان افتراضيتان، وخاضعتان لنوع من التلفيق الذي يمارسه البعض من النقاد، أو الدارسين، أو البعض من (محرري الصفحات الثقافية) والذين يتواطؤون مع مركزية أسماء(مُكرّسة) لها وضعها وثقلها التسويقي بوصفهم منتجين افتراضيين ووهميين للنص النضِر، وهذا جزء من مظاهر الخيانة الثقافية، ومن صناعة الوهم الثقافي والفرجة والثقافية، وما أكثر مظاهر ذلك في ثقافتنا العربية، وفي مجال النشريات الثقافية..
نشر هذه القصيدة أو تلك، أو هذه المقالة أو غيرها، وبقطع النظر عن توصيفها- تخضع لمزاج المحرر، وأنّ وهم نضارتها يتم فرَضه على القارئ بوصفه حكما متعاليا، وطبعا سيكون النشر كإشهار للتعريف به، ودافعٍ للكتابة عنه، أو التبشير به، فلا توصيف نقدي او مقاربة نقدية خارج لعبة النشر، ولعبة الاشهار والتبشير في ثقافتنا العربية لعبة خطرة ومريبة وخاضعة للمزاج العصابي القرابي، والذي كثيرا مايستعيره المثقفون/ النقاد من المرجعيات القرابية في البنى الاجتماعية المضطربة والمهيمنة…
المحرر الثقافي الخائن.
المحرر الثقافي هو الموظف الذي يلبس القناع العمومي للمؤسسة الثقافية- جريدة، مجلة، قناة فضائية، ورشة عمل- وهذا التوصيف يُعطيه قدرة على فرض خياراته، أو التعبير عنها، وتسويقها عبر مجالي النشر أو العرض، لاسيما وأنّ الرأسمال التمويلي للمؤسسة الثقافية يقوم على فعل العرض الاشهار والتعريف والربحية، والذي يعني اعطاء المحرر المقصود صلاحية كاملة للمناورة والاختيار، ولفرض ارادته وتصوره على الاخرين.
الوعي بالاختلاف هو يُعطي للناقد والمحرر مسؤوليته في تقييم هذا النص أو ذاك، مثلما يُبرر عدم اخضاعه لمعايير خارجية لقيم القبح والجمال، وأن مقاربة هذه النصوص تعتمد على مهنية الناقد بوصفه «القارئ العمدة» على مسؤولية المحرر بوصفه المسؤول عن صفحته، وعن وجهة النظر والسياسة التي تعتمدها جريدته أو مجلته، وهذا للأسف من اكثر مثالب التصريف النقدي في ثقافتنا العراقية…
علي حسن الفواز