محمد السهلي*
اختار نتنياهو غزة لتكون الحرب عليها مفتاح حل الأزمة المزدوجة التي يعانيها. وسبق في الفترة الأخيرة أن كرر تهديداته ضد القطاع وأهله بين كل جولة وأخرى من المفاوضات الفاشلة مع تحالف «أزرق ـ أبيض» بشأن حكومة «وحدة».
وأهداف نتنياهو من التصعيد العسكري وإعادة سياسة الاغتيالات إلى الواجهة كثيرة ومرفقة برسائل متعددة العناوين، وإن كان «البريد الداخلي» يستحوذ على معظمها. ومؤشرات هذا العدوان لافتة بدءا من التوقيت مرورا بنوعية الاستهداف وصولا إلى محاولة فرض معادلات جديدة في التعامل مع غزة وقواها السياسية.
ويدخل منافسو نتنياهو وخصومه في جوقة التهافت على قتل الفلسطينيين في موقف واحد يجعل المراقبين يتساءلون عن مشهد الاستقطاب الحاد بينهم، والذي جعل من تشكيل حكومة عقب جولتين من انتخابات الكنيست عقدة عصية على الحل!
في مقدمة المتهافتين على سفك الدم الفلسطيني إلى جوار نتنياهو بيني غانتس، رئيس أركان الحرب الأسبق والمتحفز لمنصب رئيس الوزراء.وكان لافتا أن نتنياهو أراده شريكا (من الصف الثاني) في إدارة الأهداف السياسية وراء العدوان. وفي ذلك رسالة إلى تحالف أزرق أبيض أولا تقول إنه في هكذا ظروف عليهم أن يطمئنوا إلى أنهم وراء قائد مجرب وخبير في «ردع الفلسطينيين».وفي ظل هذه الأجواء،بدأ المحللون الإسرائيليون يتحدثون للمرة الأولى منذ عدة أشهر عن فرصة متاحة لتشكيل حكومة وحدة.
لكن وفي الوقت نفسه،لايغفل غانتس عن تقديم نفسه كشخص جدير بالمسؤولية قادر على تجاوز أية خلافات مع خصمه حول السلطة، وهاهو يقف إلى جانبه «دفاعا عن أمن إسرائيل»، مسلحا بكل الوحشية التي أبداها في إيعازات القتل التي وجهها إلى الجنود خلال الحرب العدوانية على غزة صيف العام 2014 ، وكان حينها رئيسا للأركان. وبين الإثنين يتبجح بينيت حول فرض منطقة الطوارئ على امتداد 80 كيلومترا في محيط قطاع غزة، وهو الذي اشتراه نتنياهو بمنصب وزير دفاع «مؤقت» كي لايلتحق بغانتس في سياق بحث الأخير عن حكومة جديدة. وضمن ماسبق يحاول نتنياهو أن يحسن فرصه في إقناع تحالف أزرق ـ أبيض بقبول توليه الحصة الأولى من ولاية حكومة الوحدة في حال تشكيلها.
ويتحضر نتنياهو لاستحقاقات فشل غانتس في تشكيل الحكومة واللجوء إلى انتخابات ثالثة. وهو يدرك أن أفضل المناخات التي تحسن فرصه بالفوز هي مناخات الحرب، وقد دق طبولها عشرات المرات كلما وقع في مأزق حكومي تحت يافطة تعاظم «الخطر الوجودي» على إسرائيل الذي يستوجب برأيه تجاوز الكثير من الملفات الداخلية أو تأجيل بحثها. وربما يراهن هنا على تشكيل رأي عام لدى الجمهور يطالب بتأجيل البحث بملفه القضائي عى يد المدعي العام والمستشار القضائي للحكومة. وأمام احتمال إجراء انتخابات ثالثة يسعى نتياهو إلى تجاوز الخسارة في الأصوات وعدد المقاعد في الانتخابات الأخيرة، عما حصل عليه «الليكود» في الانتخابات التي سبقتها. ويراهن هنا على أن التصعيد العسكري والحديث عن الأخطار المحدقة يستقطب إلى جانبه المزيد من المؤيدين في أوساط اليمين واليمين المتطرف. ويحث الناخبين على اختيار استمراريته في الحكم على اعتبار أن «الاستقرار» السياسي يعزز قدرة إسرائيل في «الدفاع» عن نفسها.
ومن الطبيعي أن يستخدم نتنياهو هذا العدوان في تظهير مواقف الأحزاب العربية في إسرائيل ونوابها في الكنيست من هذا العدوان وإدانتهم له من أجل وضعهم في خانة «الطابور الخامس» كما فعل في محطات سابقة، ومن خلال ذلك الغمز من قناة غانتس وتحالفة على خلفية التصريحات التي أطلقها حول المشاورات مع القائمة المشتركة بشأن تشكيل الحكومة.ويهدف من وراء ذلك تعميق مظاهر العنصرية والتمييز تجاه الفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي، وإبعاد الكتلة البرلمانية للمشتركة عن التأثير في الشأن العام ربطا بكونها القوة البرلمانية الثالثة في الكنيست، وتقدمها في مسألة طرح المشاكل التي تعانيها الجماهير العربية على جميع الأصعدة.
وإلى جانب الطموحات الشخصية لنتنياهو من وراء الحرب على غزة، إلا أن سياسته تنطلق من تنفيذ مشروعه الإستعماري العدواني تجاه الشعب الفلسطيني وأراضيه المحتلة، وهو في عدوانه هذا على غزه يضع أمام حلفائه، وخاصة إدارة ترامب واقع عدم الاستقرار الذي تعيشه الدولة العبرية جراء التهديدات والتحديات التي تواحهها ، وبأن «صفقة العصر» لم تتقدم باتجاه حسم المعركة نهائيا لصالح المشروع الإسرائيلي، وهو الأمر الذي كان يعول عليه نتنياهو من وراء الخطة الأميركية التي واجهتها استعصاءات غير قليلة.
وقد راهن نتنياهو كثيرا على تقدم صفقة ترامب ومواقفه تجاه القضية الفلسطينية في تنفيذ كامل مشروعة التوسعي في الضفة الفلسطينية من خلال الحصول على موافقة أميركية رسمية معلنه بصم معظم مناطق «ج» وضم الاستيطان واستكمال حملات التهويد والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين.
وقد لوحظ أن نتنياهو يحاول إطالة أمد العدوان على غزة بقوله أمام وسطاء التهدئة بأن أمامه أهدافا أخرى ينبغي «التعامل» معها، ويعني بذلك مواصلة التدمير والاغتيالات حتى يتم الرضوخ لما تريده إسرائيل من «التهدئة» عند بحثها. وفي هذا المجال المعادلة جاهزة أمام نتنياهو وفحواها «الهدوء .. أو القتل»، في تجاوز للمعادلة الإسرائيلية السابقة التي تقول«الهدوء مقابل الهدوء»، في الوقت الذي يريدها الفلسطينيون «التهدئة مقابل رفع الحصار».وهذا استباق ورسالة من نتنياهو للجهود الإقليمية والأممية التي تبذل من أجل تهدئة الأوضاع ووقف النار.
وفي السياق، كان لافتا أن نتنياهو يكرر ماحاول فرضه في مرات سابقة بتسويق خطاب إسرائيلي يقول إن الاستهداف العسكري محصور بعناوين محددة ولاتشمل الحالة السياسية الفسطينية كلها ، كما طرح خلال عدوان العام 2014، وكان الرد عليه صائبا في حينها عندما اتحد الخطاب الفلسطيني عبر الوفد الفلسطيني الواحد إلى القاهرة الذي تشكل قبيل المفاوضات غير المباشرة حول التهدئة، ولذلك كان جوهر اتفاق التهدئة الذي وقع في ذلك العام هو«التهدئة مقابل رفع الحصار». وقبل تشكيل هذا الوفد كان الرد على العدوان موحدا من جميع الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة. وهو أمر بالغ الأهمية وينبغي أن يكون ماثلا أمام الجميع.
*كاتب كويتي