لقد كشفت مجريات احداث المباراة الكروية بين منتخبي العراق وايران، عن الكثير مما سلطنا الضوء عليه في مجال العلاقة بين البلدين الجارين، وحجم الاحتياطات الهائلة من العداء والثارات الصدئة الموروثة عن حقب الذل والعبودية والاستبداد، ثقافات وخطابات وعواطف مشوهة ومواقف “لا تميز بين الناقة والجمل” أي الانظمة السياسية والعقائدية وشعوب ذلك البلد الذي نتجاور معه بأكبر شريط حدودي يمتد الى 1458 كم، وتربطنا واياه وشائج تاريخية وعقائدية واجتماعية وثقافية عميقة وواسعة. لقد جاء توقيت المباراة في ظرف يعيش فيه العراق اندلاع أوسع احتجاجات شعبية ضد الحكومة وسياساتها، اتسم الكثير منها بطابع العداء للنفوذ الايراني في عراق ما بعد العام 2003. هذا النفوذ الذي حذرنا من عواقبه لا على العراق وحسب بل على ايران بشكل أكبر، كونه يلحق أبلغ الضرر بالمصالح الحيوية لشعوب بلاد فارس المتطلعة لتقويم تجربتها السياسية وانتزاع حقوقها في دولة ديمقراطية حديثة لا تميز بين شعوبها على اساس الرطانة والخرقة والهلوسات. لقد كشفت المناخات التي رافقت تلك المباراة داخل الملعب الاردني وخارجه وفي ساحة التحرير وبعض المدن العراقية، عن حجم الفشل (اشرنا اليه مرارا وتكرارا) في التعاطي مع ارث وثقافة الانظمة المستبدة، وعن زيف وهشاشة كل ما تم استنزافه من وقت وجهد وامكانات في التصدي لمهمات مرحلة العدالة الانتقالية.
من نافل القول الاشارة الى المعاني الاساسية لمثل هذه النشاطات الرياضية، والتي تتمحور حول مد جسور المحبة والسلام بين الشعوب والامم، ودورها في تقليص وتجفيف بؤر التوتر وشحنات الحروب والنزاعات بين سلالات بني آدم، وقد التفتت “الفيفا” الى خطورة الانحراف عن ذلك وحذرت من ضخ الشحنات السياسية والثارات التاريخية الصدئة على مثل تلك النشاطات ذات الطابع السلمي والحضاري. واننا كعراقيين وايرانيين وباقي شعوب المنطقة بامس الحاجة الى تجفيف مثل ذلك الارث والثقافة التي خلفتها وراءها حقب العبودية والاستبداد، وكما ان شعوب بلاد فارس كفيلة بالتعاطي مع ما يمرون به من مصاعب وتحديات في مجال تقويم تجربتهم السياسية والقيمية، كذلك ينبغي علينا كعراقيين التوقف بوعي ومسؤولية أمام كل هذا العجز والفشل في التعاطي مع دروس وعبر واهوال الماضي القريب، فمن دون الاتفاق على طمر صفحة “القادسيات والرسائل الخالدة” وما يتجحفل معها من تراتيل وعواطف مشوهة وايقاعات واناشيد للدمار الشامل لا يمكن الحلم بعراق جديد ينعم بالحرية والكرامة والحقوق.
بالرغم من كونها مجرد مباراة عادية جدا في جدول التصفيات الاولية لمونديال 2020، الا انها تحولت بفعل المناخات المازومة وحالة الاحتقان الى شيء آخر تماماً، حيث تلقفتها وسائل الاعلام ذات الاجندة المعروفة لتحولها الى ما يشبه الفتوحات التاريخية الغابرة، وهي بذلك قد اكدت حقيقة مثل هذه الوسائل الاعلامية وسياساتها التي تختصرها العبارة المعروفة “ايريدوها كبار كبار ايريدوها زغار زغار” وهي في نهاية المطاف محاولات بائسة لسد النقص في ميادين الفتوحات الحقيقية. اننا ومع مثل هذه الاجواء الانفعالية والشعبوية بامس الحاجة الى الآراء الرصينة والحكيمة في التعاطي مع مثل هذه الملفات المعقدة في العلاقة مع جيراننا، والتي تحتاج الى عقول وضمائر متخففة من ارث القادسيات وثارات القرون البائسة. ان الرياضة اليوم تحتاج الى جيل جديد من الرياضيين يفهم رسالتها الاممية كجسر للمحبة والصداقة بين الامم…
جمال جصاني