معتصم حمادة *
أول ما قام به ورثته أنهم ركنوا بندقيته في زاوية من التاريخ المنسي
- بعيداً عن أي نفاق، كاد أن يصبح مرضاً مستشرياً لدى البعض، نقول إننا كنا مع ياسر عرفات، على وفاق وتفاهم أحياناً، وأحياناً أخرى كنا على خلاف معه. وما كنا على خلاف حوله. وخضنا في مراحل التفاهم نضالات مشتركة صنعت محطات تاريخية، منها محطة إطلاق البرنامج المرحلي، وبناء الموقع التمثيلي الشامل لمنظمة التحرير الفلسطينية. وخضنا في مراحل الخلاف، نزاعات سياسية، خلف الجدران، وعلى الملأ، لكننا لم نخرج – معاً- من الدائرة، ولم نصل إلى القطيعة.
احتل مناصب عديدة أورثها لمن هم بعده؛ رئيساً لفتح، واللجنة التنفيذية، والسلطة الفلسطينية ودولة فلسطين. غير أنه لم يورث منصبه كزعيم لفلسطين حتى الآن، ومازال هذا المنصب شاغراً.
كل المناصب التي احتلها لم تقطع صلته بالشارع. كان زعيماً في الشارع أكثر منه زعيماً في المؤسسة. ربما اختلف مع الجميع، لكنه لم يختلف مع الشارع، ومع المواطن في الشارع. وحتى حين تصل الأوضاع إلى لحظة «عدم تفاهم»، كان الشارع يعتب عليه، ولا يغضب منه.
قبل قيام السلطة، كان حريصاً على دور «القيادة الجماعية»، وإن كان في الوقت نفسه يغلب رأيه في بعض الأحيان. لكنه في المحطات الكبرى، كان حريصاً على دور هذه القيادة. مثال ذلك حرصه على عقد الاجتماعات القيادية عشية المجالس الوطنية والمركزية، والوصول مع كل الأطراف إلى تفاهمات تؤسس لقرارات اجماع، أو ما يشبه الإجماع، بعد أن تكون قد رسمت الاجتماعات خطوط التفاهم، وخطوط الخلاف. وكان «يعشق» اللجنة التنفيذية، فيدعوها إلى الاجتماعات في مواعيد مختلفة، أهمها ما كان يبدأ بعد منتصف الليل، لإعطاء القضايا الأبعاد التي تستحق من الاهتمام.
أما في جولاته في العواصم الكبرى، فكان دوماً على رأس وفد يضم أعضاء في اللجنة، بما يتناسب ولون العاصمة. وكان ذلك مقروءاً للجميع.
افترقنا – في وجهة النظر – مع مؤتمر مدريد، وتفاقم الخلاف مع اتفاق أوسلو، لكن حرصه على الحوار مع الآخرين، بشكل أو بآخر، لم ينقطع تماماً. وبقيت بعض الخيوط والخطوط ساخنة. وصلت الخلافات بيننا ذروتها، لكن بقيت م.ت.ف هي الخيمة التي تجمع بيننا، وبقيت العين على ضرورة صون المنظمة، ما يعني صون الأساس المؤسساتي والبرنامجي لاستعادة وحدة الحال. وإن كانت معظم الجسور قد دمرت في بعض اللحظات، إلا أن جسراً ما بقي متيناً.
أدركنا اللحظة التاريخية ذات الضرورة التاريخية لإعادة إعمار هذه الجسور، في الوفد المشترك إلى مفاوضات كامب ديفيد 2 في تموز/ يوليو 2000. عند تلك المحطة أدرك عرفات أن طريق أوسلو وصل إلى نهاياته. وأنه أعطى كل ما يمكن أن يعطيه. وآن الأوان لإجراء المراجعة. وعلى عادته كانت المراجعة في الأداء، ولم تكن في الوثائق. فذهبنا معاً إلى الانتفاضة الثانية في محاولة لفتح مسار جديد للمسألة الفلسطينية، غير أن البيت الداخلي في فتح، لم يكن متوازناً. كما أن موازين القوى الإقليمية والدولية كانت تضغط لبث الحياة والأنفاس في جسد أوسلو الميت، عبر إعادة تدوير الصلاحيات في السلطة الفلسطينية لصالح مؤسسة الحكومة على حساب مؤسسة الرئاسة. ما عزز من دور اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وعلى رأسها عرفات.
أخرج عرفات من أوسلو. وفرض عليه الحصار، لكنه صمد تحت رعاية وفي ظل حماية الآلاف من العزل في بقايا «المقاطعة» بقي خلف الحصار، ولم يفرج عنه إلا عندما ذهب إلى الموت. مات الجسد، وبقي «الظل العالي» عالياً.
بعد الرحيل عكف الورثة على إعادة ترتيب البيت. الخطوة الأولى ركن البندقية في متحف التاريخ باعتبارها من إرث الحرب الباردة، بين الدولتين العظميين، كما أفتى أحد صغارهم. وباتت واشنطن هي الطرف الممسك بأوراق الملف 100%.
وأعيد نبش القبر لإخراج جثة أوسلو وإعادة تلميعها وتقديمها خياراً وحيداً. بدأت الجثة تتحلل، لكن في كل مرة تخضع للتجميل، في طابا، وفي شرم الشيخ وفي أنابوليس وغيرها. لكن الجثة تبقى جثة. حتى أن م.ت.ف كادت هي الأخرى أن تتحول إلى جثة. تناقصت دوائر لجنتها التنفيذية، ثم أعيدت صياغتها لتحويلها من لجان تنبض بالحياة إلى مجرد تماثيل من الشمع، وجوهها لامعة، لكنها لا تنطق ولا تنصت ولا يأيتها نداء الشارع وشكواه وأنينه وآلامه، وصرخات شبابه.
تعطل الحوار، وفقد حرارته. وتقلصت الدوائر، وتداعت الأبنية وبدأت تتهاوى بناء وراء بناء، وحجر وراء حجر ومازال البناء يسمى قصراً.
جثة أوسلو تحللت، وصارت هيكلاً عظمياً نتن الرائحة، شنيع المنظر. لكن أصحابه أصروا على التعايش معه، يدفعهم وهم بإعادة الحياة إليه يوماً ما.
ما تبقى منه هو التنسيق الأمني، الذي ارتفع إلى مرتبة القداسة.
وتبعية اقتصادية جعلت من مناطق «دولة فلسطين» حديقة خلفية لإسرائيل.
وإدارة ذاتية يأتيها التمويل من خزينة كحلون، لدفع رواتب العاملين فيها، ولدى الاحتلال في الوقت نفسه.
وعلى إحدى التلال تقبع إدارة مدنية توزع الأدوار، وترسم السيناريوهات.
وها نحن نحيي الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عرفات. وكثيرون مازالوا يتلطون خلف ذلك اليوم الذي أطلقت فيه الرصاصة الأولى.
- كاتب فلسطيني واحد ثوار الجبهة الديمقراطية وشغل رئيس دائرة الاعلام والتوثيق في الجبهة ذاتها.