أسعد عرابي
في كل مرة يعرض فيها عملاق بريطانيا الإيرلندي فرانسيس بيكون يُطرح في باريس نفس السؤال: ما هو سر عبقرية أصالة هذا المصوّر؟ رغم استفزازه للذائقة العامة، ورغم كآبة موضوعاته وعزلتها القاتلة الهمودية العصابية؟ رغم أنه عصامي لم يدرس حرفته المعقدة في أي معهد تدريب أو تلقين تقني؟ ثم ورغم ما يُثيره شذوذه الجنسي ودمامته من غثيان؟ بل ورغم أنه يستخدم بصيغة فضائحية الوثائق الفوتوغرافية العارية والمقززة؟
قبل محاولة الإجابة النقدية على هذا السؤال علينا أن نستدرك حدثية المعرض الجديد في متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو في العاصمة الفرنسية، معرض بانورامي جديد ذو نكهة تواصل مع صفحات أدبية، هي الخاصة بنيتشه وجورج باتاي وآخرون، إذن اختيار مئة لوحة عملاقة لفناننا يتمركز تاريخ إنجازها في فترات التأثر هذه ما بين عامي ١٩٧١م و١٩٩٢م تاريخ وفاته في مدريد. هو بريطاني إيرلندي مولود في دبلن عام ١٩٠٩م وأقام محترفه في لندن واتسعت شهرته وكأنه بيكاسو إنكلترا، قدم العاصمة وجابه احتراف اللوحة والفراغ الأبيض بموهبة تكوينية -طبوغرافية محكمة، تمثل مدرسة اجتياحية في حساسية التعبيرية الأنكلوساكسونية. افتتح المعرض الذي ننتظره بفارغ الصبر مساء الحادي عشر من سبتمبر ٢٠١٩م مستمراً حتى أواخر كانون الثاني من عام 2020 م. لعله من الجدير بالذكر أنه على صدام دائم مع التراجيديا اليومية، ابتداء من مرض طفولته: الربو المزمن الذي نغص عليه حياته، وانتهاء بمعاملة والده القاسية التي قادت إلى طرده مع مرضه إلى قارعة الطريق، ناهيك عن شذوذه الجنسي ودمامة خلقته وحظه العاثر حين رجع ذات مرة ليلقى صديقه في الفندق فوجده ميتاً منتحراً بسبب المخدرات، هو ما رسم على وجهه العصابي سمة الهذيان والانطواء المرضي، غارقاً في عزلة اكتئابية خنسائية بقية حياته.
معرض استعادي ثان
هو المعرض الاستعادي الثاني في الأهمية الذي يقام في باريس، فقد سبقه عام ١٩٧١م معرض أقام الدنيا ولم يقعدها لما أثاره من ضجة سلبية أو إيجابية، كان لي حظ حضور نقاش مثير جرى بينه وبين مذيعة الأخبار الفرنسية غير المتخصصة، قذفت في وجهه المتوتر (مثل كوكب جوبيتر) أسئلة مكتوبة استفزازية حول البعد الجنوني أو المعتوه في وجوهه، وبما أنه يصور غالباً وجهه الذاتي في المرآة، فقد أجاب على استفزازها بثورة كلامية بركانية رد فيها الاتهام بالجنون بأنها معتوهة متبدلة الإحساس غير قادرة على قراءة المهم في اللوحة، يحضر في هذه المناسبة جزء من السؤال الأساسي عن سر أصالة لوحته رغم حشوها بكل ما يثير العنف
«أليست مرآة بشاعة الحقيقة هي وجه آخر من صدق التعبير الفني؟»
ويخدش حياء الأخلاق العامة أحياناً. لذا سمي معرضه في حينها «انتصار التراجيديا»، في حين أن تكريمه البانورامي الذي تم إثر معرض باريس الأول في «تات غاليري» -لندن، كان اعترافاً صريحاً باحتكاره صفة الممثل الأول للثقافة واللوحة الأنكلوساكسونية وعن حق. بما أن محور المعرض الراهن (حول علاقته بالأدب) مرتبكة وغير واضحة، فإن المشاهد يبحث عن علاقات وشيجة أقرب لها علاقة بمعاصريه من الفنانين الفرنسيين وعلى رأسهم بابلو بيكاسو وهنري ماتيس وأندريه ديران، أنا لم أجد هذه العلاقة الموهومة إلا من باب الهم الوجودي العام الذي نجده لدى بيكاسو وجياكوميتي بسبب آلام الحرب العالمية الثانية.
إذا قربنا مجهرنا التحليلي أكثر من الخصائص الدرامية لدى فرانسيس بيكون وجدناه أشد عصابية وهمودية وشيزوفرينية وفرويدية وهو ما يفسر ثلاثية مهداة الى ابن سيجموند فرويد عالم النفس وهو المصور المعروف لوسيان فرويد. فطبعه العزلوي المتوجس شراً من الحياة والموت يقترب من مقولة جان بول سارتر الشائعة: «الآخرون هم الجحيم الحقيقي».
عرفت ثلاثياته العملاقة المستقاة أصلاً من الثلاثيات الكنسية البروتستانتية الموروثة، بأنها من أغلى اللوحات في عالم الفن، بيعت آخر واحدة منذ فترة قريبة في مزاد سوبس بمبلغ ١٣٠ مليون يورو. أقول عرفت بإحكام شخوصها الكافكاوية المحبطة والمبتورة الأعضاء والوجوه والتشريح، محجوزة في هندسة زنزانات الحياة اليومية (على مقاعد التواليت وسواها) وكأننا بإزاء مسلخ بشري ينزف قيحاً سيزيفياً أبدياً. وجوه من عذابات القحط الإنساني والانسلاخ المطلق عن الحياة الواقعية، عرائس بشرية ومسوخ مشظاة مرمية في علبة قاذورات تنتبذ زوايا الفراغ القاحط. وتعاني من وحدة أنوية كابوسية.
الصورية الأنكلوساكسونية
يتحدث المعرض عن تأثير المدرسة الفرنسية على بيكون، أنا أرى العكس، فإذا تجاوزنا التأثير المثبت للمعلم اللندني تورنير على كلود مونيه والانطباعية (التي تعتبر الرمز الوطني لفرنسا)، فإن فرانسيس بيكون لا علاقة له بمدرسة باريس الغنائية التي ابتدأت بالانطباعية وانتهت بالتجريد الغنائي، لعل المدرسة الأنكلوساكسونية أشد تمايزاً ووضوحاً في خصائصها من مدرسة باريس.
«علينا أن نبحث في تاريخ الفن الفرنسي عن الاحتدام التعبيري الدرامي المأزوم والاعتراضي على الوجود والعدم»
يعتمد فرانسيس بيكون بشكل أساسي كعمود تعبيري للمدرسة الإنكليزية على البورتريه، وأكثر على الأوتوبورتريه أي رسم صورة الوجه – الأنا بأشواقها وأتراحها الوجودية الدرامية الإحباطية في المرآة. لذلك فإنه رغم عنف تشطيباته وإلغاءاته لهذا الكابوس الأنوي فإن صورته الفوتوغرافية لا تخفى على العين الخبيرة، وهنا لا بد من تصحيح إدانة النقل أو الاستلهام عن الوثيقة الفوتوغرافية. لأنها الأصل الصالح للاستحواذ أو الاستخدام الصوري في هذا المجال، ولا فرق بين الموديل الحي أو الواقع الطبيعي والأصل التوثيقي خاصة منذ بداية ظهور الوقائعية الصورية التي استمرت في فن الفيديو والسينما.
لا فرق إذاً بين استخدام ملصقات الصور الاستهلاكية في البوب آرت (مع معلم كبير مثل روشنبرغ) أو التجارب الاستهلاكية ابتداء من الدادائية أو السوريالية أو الملصقات التكعيبية (لبيكاسو وبراك). فإذا كان المختبر الفوتوغرافي وبدائع الفن السابع (السينما) اعتمدت على الصورة الموثقة فإن نتائجها الشطحية أثرت على المدرسة الأنكلوساكسونية كما تأثرت الكاميرا بحساسية الفن التشكيلي. لن يعيب بعد ذلك استخدام فرانسيس بيكون لمصادر فوتوغرافية سواء أكانت فاحشة العري وبذاءة الجنس أو سواها فهي طريقة للاستفزاز والغثيان البصري الأشد خدشاً لحياء اللوحة وتقاليدها الرومانسية المحتشمة. هذا ما فعله زملاؤه هاميلتون ودافيد هوكني ولوسيان فرويد. وابداعات الفنانة الفلسطينية اللبنانية منى حاطوم، هو ما يفسر محاولة سارة شما الالتحاق بهذه المدرسة والإقامة في لندن. وإذا كان لا بد من التدقيق في التراشح التشكيلي الشرعي بين محترفين متجاورين جغرافياً، علينا أن نبحث في تاريخ الفن الفرنسي عن الاحتدام التعبيري الدرامي المأزوم والاعتراضي على الوجود والعدم، ابتداء من بيكاسو وعبوراً بسوتين وصولاً حتى جورج روو والفن البكر. وذلك رغم التباين الثقافي الصريح بين موقعي الفرانكوفونية والأنكلوفونية التشكيلية.
من الضرورة بمكان إذاً زيارة معرض فرانسيس بيكون والتخلي قبل ذلك عن التهويمات النقدية الانحيازية وغير المحايدة. علينا أن نفتش عن القيم الشمولية في تجربته السيزيفية المعذبة، ناهيك عن الإحكام والوحدة الطبوغرافية البصرية والتخليلية، وتمفصل شظايا الأشكال الآدمية والاستهلاكية بإكسسوارات الفراغ العدمي المسيطر بخوائه وصمته الإحباطي. أليست مرآة بشاعة الحقيقة هي وجه آخر من صدق التعبير الفني؟
ضفة ثانية