عبد الهادى الزعر
استطيع القول ان حبيب السامر نجح في لملمة أحاسيسه المبعثرة حتى النائية والمتوارية ، في قرارة نفسه فصاغها شعراً مائزاً بخبرةٍ ووعىٍ عالٍ، بدت وكأنها مرآة صقيلة لحياتنا التي لم تنعم بالهدوء، ولم تذق طعماً للسكينة منذ الستينيات من القرن الماضي ؛ تمكن بحنكته المعهودة من الامساك باللحظة الهاربة قبل ان تتسامى، تكاد تكون هذه الصفة متفردة في هذه المجموعة فأجبرها منصاعة لما يريد -وهى المجموعة الثامنة له، فالخيال يؤدى دورا محوريا في الابداع الأدبي والعلمي على السواء، ومنذ العصور الغابرة أعتبر – الرواقيون – الخيال أساساً مهماً للإبداع فالفنتازيا على سبيل المثال هي شطحات قابعة في طيات الوعى الآدمي لا تظهر الى السطح مالم يسبقها خيال جامح !وقصيدة نثر اليوم ذات حضور لا يمكن التغافل عنها في حياتنا الثقافية لكونها ظاهرة أدبية لها ملامحها وسماتها وروادها ؛ اقترنت بمميزات عدة :إنها تسير بخطى تتواشج وروح العصر الزئبقية ثم هي مزدحمة بمقادير لا حصر لها من التأويل والتناص، ومن سماتها انها مفعمة بالكثافة والإيجاز والإضمار هذه المزايا مكنت السامر من اصطياد ما يصبو اليه بأقل الجرعات السردية حتى لو كانت :
- سنحات عابرة كشهاب ليلةٍ ماطرةٍ
- لقاء من تنتظره – – ولو بحلم قيلولة
- لمحة ظهر فيها عزيز غائب تترقبه الروح بشغف ولكنه مرّ خاطفاً في زحمة سوق الهنود
المهم انه حاول أنسنتها وتحويلها من صورٍ ذهنيةٍ بعيدة الى لقطات يقظة يمكن لمسها والتعامل معها عن قرب بالرغم من ذوبانها في الأقاصي البعيدة فهي مسرعة هلامية لا يمكن إيقافها والتقرب منها إلا بمشقة بالغة وهذا الاسلوب دأب عليه كبار الشعراء العرب كأنسى الحاج و الماغوط وكاظم الحجاج وتوفيق زياد -ومن اهم سمات شعر حبيب السامر انه لا يطيل النظر متسمراً مبهورا يحدق في زاوية واحدةٍ من شعره ولا يقف متصالباً نحو فكرةٍ أو فقرةٍ دونها على عجل تجده هكذا تنثال اشعاره وهو مستريح لما يكتب -فلا استغراق ولا إطالة في – اللا أين – لا يحك ولا يشطب عفوي الخاطر تلقائياً يكتب مقطوعاته على عجل غايته ابراز الصورة الشعرية قبل ان يتوارى زمنها – لب المتن الشعرى – فهو يعلم جيداً قدرتها على إثارة ذهن المتلقي « صدقها باّنيتها «
) النهارات المعطلة
فرصة مواتية لحرث ما تبقى من نشيج
والليالي لا تجيد تداول الحلم
في يوم تسقط عند بهتانه
الكوابيس المسفوحة) ص 9
ومما ساعد في ذيوع قصيدة النثر منذ مطلع النصف الثاني للقرن المنصرم في بلدنا الحبيب انها تفصح عن الحدث العابر بدقةٍ متناهيةٍ حتى وهو منزوٍ في الثنايا، وأستطيع القول انها متمكنة من إزاحة الغبار عن جزئية واحدة مما يضمر في نفس منشئها وتحتفظ بالباقيات لأجل مسمى -نصوص شاعرنا في مجموعة — بابيون — أربت على المائة ونيف من القصائد سيكون حديثي عن جماليات التركيب والمجاز والمفارقة اللغوية وحسن السبك:
(في الليلة المعطلة
أدس النوم خفيةً في الوسائد
أهرّب الحلم .. كي ينطفئ الموت
تتأجل المواقيت السرية المسعورة
تنتفض ما كدسته الطفولة
كلما تيبس اللبلاب) ص 11
المقصود بالصورة هي مجموع العلاقات الناشئة في الخطاب ليس للفظة ولا جرسها أثر بين وإنما المفردات بأكملها واحتشادها في السياق هو من يبرز الصورة فكلما كانت المفردات محكمة البناء بلا اسراف تتكون صور باهرة فالدراسات الألسنية لم تفرق بين الدلالة والمعنى مادام لها غاية
) من اوعز للأصابع ان تمسك دوارة الهواء
والكؤوس أن تريق ماء وجهها بخجل!
ومن أناب عن الوجه الماثل في الظل
ببقايا ملامح
وخثرة ضوء
كأنها تراكم صور في العتمة) ص 15
على القارئ ان يدرك المعنى من خلال تحويل الأشياء الى علامات دالة وهو ما يعرف « بالأنسنة « وإلا تمسى أشعاره امتدادات لا متناهية فالمتلقي النابه هو الذي يوجه المعنى الوجهة التي يرتضيها حسب ميوله وثقافته –
(التحديقات المتتالية
فوبيا متراكمة
الشخوص لم نجدهم بعد
هل حاولت ان تعد خطاك
منذ ان تعلمت المشي
على حبل الكلام؟ )
شعر اليوم يعيد انتاج الواقع ولا يستنسخه فأنه مكتنز بالغرابة حد الاشباع فلا يجد المتلقي معناه الذي وضع من أجله بسهولة ويسر إلا بالقراءة الصامتة والتقصي من خلال لوامسه ومجساته التي يمتلكها وتلك حقيقة أقرها نقادنا القدامى منذ القرن الرابع الهجري حينما كانوا يفاضلون بين شعر هذا وشعر ذاك –
(ماكرة انت ايتها الاقنعة
تشين بالوطن الطري
في مأدبة الحرب
تمدين يدا موغلة بالفجيعة
تضرمين كل هذا الجسد المقدس
لا تفزعي الحمام
وهو يعفر خد التراب بالهديل) ص 73
يتكئ حبيب السامر على حروف التشبيه لتقريب المعنى المراد ولكونها ترفد النصوص بمساحة واسعة من السرعة في الادراك والوضوح كما ترفده بحزمةٍ من الضوء –
(سأفتح الاّن خزائني
دون الهبوط طويلا الى القبو
أقلب الحلم
أتصفح الوجوه
أحاذر البروق في استدارة نعاس الوردة
أحتمى بالنافذة المطلة
على فضاءات حلمي
قليلا اتريث،
قبل البدء بالخطوة الاولى
لا اعرف لماذا تخيلت الان جورنيكا) ص 85
الأعمال الأدبية بوصفها نتاجا للمخيلة المبدعة تنطوي على أفكار غير معلنة يتم اكتشافها لاحقا عن طريق الحفر وعلى القارئ المثالي ايجاد بنية حوارية بينه وبين النص وكلما كثرت القراءات الواعية كثرت المعاني –
) أحتاج
مزيدا من ملح التقوى كي أذرَه في كتاب الحياة
وأحنو قليلاً على قبة البرد
وأمنح الليل بعض حزنٍ لا يهدأ
وصمت لا يجيد تدوير الكلام
أيتها البلاد
هذا المساء أحتاجك جدا
لتمنحني زائرتي وردة
وتدثري بقايا أحلامنا) ص 121
• بابيون / شعر حبيب السامر (8) / صادر عن دار المعقدين / طبع علة نفقة وزارة النفط