إنني ألتمس العذر لأولئك الأشخاص الذين شغفوا بالفلسفة، أو أغرموا بالجدل، في رد كل ما يواجه مجتمعهم من مشكلات، أو نسبة جل ما يعتريه من مخاوف، إلى الثقافة. فهناك مرجعية واحدة لديهم هي العقل المجرد، وجميع ما عداه فوضى وانحراف!
وحتى لا يتهمني أحد ما بالمروق عن جادة الصواب، فإنني أعني أن كل ما يجود به هؤلاء من حلول إنما يولد في الغرف المغلقة، أو الجامعات، أو مراكز البحوث. وهم يرون أن هذه الأماكن هي التي تصنع التغيير، وتأتي بالمعجزات. وهي وراء كل تقدم أحرزته البشرية في أي مكان من العالم!
ومع أن هناك أمثلة كثيرة على تطرف هذا النهج، وعدم مطابقته للواقع، سواء في مجتمعاتنا نحن، أو المجتمعات الأخرى، فإن من الصعب إقناع أكاديمي أو عالم اجتماع أو مفكر أو سياسي بتجاهل النظريات التي استخلصها من التأريخ أو علم النفس أو السياسة أو الاجتماع، والاحتكام إلى ملاحظات عادية تتردد في هذا المكان أو ذاك.
لقد قادني إلى هذا الاستنتاج، النزاع المحتدم حول شروط النهضة. فقد رأت النخبة أنها تنحصر في جملة مفردات مثل الديمقراطية، والعلمانية، وإطلاق الحريات، . وهي أمور تبنتها دول العالم المتحضر، وآمنت بها، وعملت بموجبها، بعد أن قطعت شوطاً طويلاً في البناء والعمران.
ولأن أصحابنا معجبون بهذه المبادئ، مولعون بالإشادة بها، مفتونون بالحديث عنها، فقد عدوها سبباً لما انتهت إليه تلك البلدان من رفاهية، وليست نتاجاً طبيعياً لها. ورأوا أنها إذا انتقلت إلى بلادنا، فستفضي إلى حياة رغيدة هانئة. وتقود إلى نهضة صناعية كبرى.
إن الأقطار التي نهضت في الربع الأخير من القرن العشرين، والعقدين الأوليين من القرن الحالي لم تلتفت إلى هذه النواحي، ولم تراع هذه الأساسيات، إلا بعد أن حققت نجاحاً ملموساً في التنمية. فهي نتائج وليست مقدمات. والأمثلة على ذلك كثيرة كاليابان وكوريا والصين وسنغافورة وتركيا وإيران..
لقد كان الشرط الأول للنهضة هو الانضباط العالي الذي تفرضه قوانين صارمة، وحكومات قوية، وأنظمة شبه استبدادية. ولولا ذلك لما استطاعت أي من هذه الدول أن تخطو خطوة واحدة نحو الأمام. وفي ذات الوقت تمكن قادة ملهمون أن يبدأوا فيها بعمليات تصنيع متواضعة، لم تلبث أن اتسعت ونمت، واكتسب أصحابها الخبرة والدربة والكفاءة. واتجه رجال الأعمال بعدها إلى استنساخ التجارب الأوربية، قبل أن يطلقوا مبادراتهم الذاتية في ما بعد. ولو كانت هذه البلدان تعيش في فوضى وعدم استقرار، وانفلات عشائري وحزبي، وتمرد قومي وطائفي، لما تمكنت من بدء تجربتها الخاصة أبداً.
ليس ثمة ما يعيق التنمية في مجتمع متخلف أكثر من الديمقراطية وإطلاق الحريات. فالشعوب المتحضرة هي التي تطور قوانينها بمرور الأيام، وهي التي تصنع نظمها الخاصة وتجاربها الناجحة وليس أي شئ آخر في هذا الكون!
محمد زكي ابراهيم