النص الشعري القصير جدا، نص متمرد على الثبات والنوع، هو حصيلة التجريب والتحولات البنيوية في الشعرية (العمود وبيت قصيد والبيت اليتيم الدال بأبعاده الزمكانية والاجتماعية فقصيدة التفعيلة فالنص الشعري النثري الكتلي وانتهاء بالنص القصير والقصير جدا المتميز بالتكثيف والايجاز والاختزال والحذف والاضمار، فالنص المفتوح الذي شكل آخر حلقة من حلقات التحول الشعري)، و(تابوت) المجموعة الشعرية التي نسجت عوالمها النصية المتجاوزة للعنونة بأبوابها الثلاثة (القليل من الثرثرة تكفي) المتناص وقول العرب (خير الكلام ما قل ودل) و(معذرة نسيت كيف ابتسم)، واخيرا (الى ما تبقى منها)، انامل منتجها الشاعر طالب فرعون واسهمت دار اوراق على نشرها وانتشارها/2019..كونها نصوص تنطلق من لحظة وعي يحققها المنتج(الشاعر) فيتجاوز الواقع الذي سلبت فيه ارادة الانسان وسحقت تحت تأثير الآلة الحديثة وما افرزته من تداعيات وصراعات اجتماعية معبرة عن رؤية انسانية تقوم على التكثيف والتركيز الدلالي بألفاظ موحية تثير التأويلات بتجاوزها المعنى الأحادي ابتداء من العنوان الايقونة المتميزة ببياضها البارز الذي شكل علامة سيميائية دالة على حركية الذات المأزومة، والمضمون ..فضلا عن تشكيله نصا موازيا وعتبة دالة على هويته المحققة لوظيفتها السايكولوجية باستفزاز المستهلك(المتلقي)واثارة انتباهه، لأنه يميل الى حمولات فكرية ومرجعية اجتماعية… فاسم المنتج الذي اعتلى لوحة تجريدية تعبير عن تأزم وجودي ذاتي وموضوعي..
ـ لا تستطيع التحليق
الطين الذي خلقت منه
ليس نقيا / ص5
ـ تعودت ان اسدد ديونه
واكتب رسائله الى السماء حين يتذمر
واجمع فراشاته قبل الذهاب الى النوم
هو يعرف ما افعل
ولكنه يستاء حين ينهمر المطر
وانا منشغل بغلق النوافذ /ص6
فالشاعر(المنتج) يلتقط اللحظة المشهدية الحياتية ويعبر عنها بطريقة درامية معتمدا الاختزال في البنية الفنية واللغوية مع اقتصاد في الالفاظ واعتماد الرمز الايحائي الذي منح النص انفتاحا تأويليا عبر الرمز الايحائي والمفارقة الادهاشية التي تشكل الغاية في البناء التكنيكي للنص القصير جدا، فتثير في المتلقي الاحساس بالكينونة في الزمان والمكان بمفهوم هايدجر، فالنص يسير بموازاة الواقع بلغة مجازية مانحة اياه عمقا فكريا وبعدا دلاليا..مع اعتماد اسلوب التكثيف على مستوى السرد الشعري واللغة والحدث الذي ظل يحوم حول العمق السايكولوجي وردود الفعل النفسي.. بلغة تمتاز بدقة تعابيرها الموجزة والفاظها الدالة التي تتسم بدور وظيفي في معناها، فضلا عن توظيف الرمز فنيا كوسيلة لإغناء عوالم النص من خلال انحرافه بدخول المجاز واختراق بوابته واضفاء الخيال الابداعي.
ـ قبل ان يذهب الى الحرب
ترك على جبينها ندوبا كثيرة
تشبه القبل /ص46
ـ قبل ان تقفز من النوافذ
كانت للعصافير أوكار تشبه المآذن
وحين ترفع اصواتها كنا نحتفي بهروبها المبكر الى الموت
الموت الذي أيقظ الرعاة من سباتهم
ـ كان نايه يعزف اناشيدا عن الفردوس
ويحرض الحقول على الانجاب
هي لعنة أوقدتها النيران الصديقة
كما يدعي الهاربون منها الى مشيماتهم الآمنة. ص47
فالنص بدفقه الدال على اتساع معناه بضيق عبارته وما يكتنزه من خلق وتفاعل سوسيوسايكولوجي معبأ بدلالات وحمولات فكرية وانسانية كونه بنية دلالية تنتجها الذات المبدعة في إطار بنيات ثقافية واجتماعية للتعبير عن اللحظة المشهدية الحافلة بالاستثنائي من الواقع، واللفظة المشحونة بدلالات تفرض التأويل واستنطاق الوجود بكل اشيائه باقتناص لحظاته وتوظيف الجوانب الفنية والجمالية لملاحقتها وزرعها بنتوءات النص ليضفي عليه سمة التواصل على المستوى البنيوي والدلالي والسيميائي.
حين يستبد بي الحزن
اذهب اليها
اقصد الى ما تبقى منها
عباءتها
ثوبها الاسود
خاتمها بخرزته الزرقاء
اوقد فانوسها
لأراها وأرى الله /ص97
فالنص بتشكيله الايقوني يحمل موقفا تواصليا متحركا برموزه الدالة والمقترنة بواقعية المنتج للمعنى (ماديا ومعنويا) ليشكل بنية ابداعية تمزج الخارج النصي بالداخل النصي والمنتج(الشاعر) المحقق لذاته بلذة الكتابة والمستهلك(المتلقي) الباحث عن لذة القراءة لتحقيق المتعة الجمالية والمنفعة الفكرية المضافة، وبذلك قدم الشاعر نصوصا تصنع نفسها من المجاز والاستعارة لتخلق مشاهدها المكتنزة بالوجود بتوظيف عدة مستويات لغوية يجمع بينها الايجاز والتكثيف فيقدم شكلا تعبيريا يتميز ببنيته الفنية والفكرية التي تقوم على البعد الاشاري المتمثل بالاختزال الجملي والايحاء الرمزي واعتماد المشهدية وتحويلها الى بناء فكري وذهني.
علوان السلمان