خليل مزهر الغالبي
«احمد ابراهيم» ذلك العاشق الذي محور السرد ثم امتدت ذاته لتلك الأسماء من الشخوص التي كونت الفعل السردي وفق سبك حكائي متوازي ومتزن باحداثه الممتدة على زمكانية الروي المتعددة والمتنوعة والتي تجسدت بالرحيل المتنقل حتى مدن إيران وما فيها من تعدد التلاقي والتعارف بشخوص اخرين.لذا فالمكان لم يعد حسب السرد مجرد فضاء يتحرك فيه احمد وانما هي معلمة مهمة لكينونة سردية الرواية وبمثل مسرح شهد ادوار شخوص الرواية وبتماهي منضج لثيمتها.
وكان محور الاحداث، محور متجانس ومتلائم، مع التصاعد المضطرد والمتوازي للأحداث بما فيها من مفاجآت، وتنقلات مؤثرة، وقد بدا أكثر المحكي أكثر إشراقاً وشاعرية.
ونرى اهمية البدء بسماعنا لقول تلك العاشقة «وداد»(نحن السومريات لانجهر بكلمة الحب لكنهم يجدونها مكتوبة على وجوهنا منذ الازل كوشم قديم)ص19،وهي بنت احد قبائل لكش وقد صرحت بذلك امام العالم ،وهذا الايحاء ما تؤكده مضافة دالة عنونة الرواية الواصفة لأرض لكش(العودة الى لكش أرض الاساطير وحكايات العشق الساخنة) وما لدالة كلمة (الساخنة) من ايحائية على صدق العشق وقوة الهيام فيه، وهذا ما نقلته الرواية لنا وفق اعتناء بتوالية السرد ودقة التعبير وتصوراته، وبلغة اقتربت في احاينها لتعميق الكلام المتداول وهو يغور ليلامس الروح ،واخرى للملفوظ الشعبي بما ينضج القول ويقرب المعنى وايصاليته للمتلقي كما في قول «وداد» (احمد سأذهب يكفي انني رأيتك، خفت ان تذهب دون ان اراك غيابك طويل، كل مرة خبرني قبل ما تروح، اريد اشوفك حتى لو من بعيد)ص86 واخرى في قول مياسة(ما اخذت كلام الرجل وبقيت آكل بروحي من ذاك اليوم لليوم)ص98.
«احمد ابراهيم» الذي منعوه من الزواج بحبيبته السومرية، ما كان منه غير ان يرحل بعيدا عن ارض عذاباته التي عبر عنها (حين خَرجتْ من حياتي أحسست انه ما من شيء يشدني الى الارض، كنت مثل طائر فقد القدرة على الطيران) ص9 ومن بدء الحكاية صرح العاشق الابدي احمد ابراهيم عن عذاباته لفقد حبيبته «وداد» لزواجها من ابن عمها «حسن المطلك» وفق قانون العشيرة الصعب بل المهلك احيانا في عبوره.
ومن هذه الإعتمادات ابتدأت الحكاية ومن رحيل وإبتعاد «احمد ابراهيم» عن قريته حيث المدن والمدن البعيدة وبعدها الى مدن فارس وتعارفه على شخوص ليصيروا له حاضنة حملت له المودة والمحبة وتقديم المساعدة له.
فمن اشتغال «احمد ابراهيم» في فندق حتى سفره خارج البلد الى ايران ليفتح له حياة واسعة وجديدة في مجتمع بتطلعات غريبة ومن بدء تعرفه بالصدفة على «جيهان» التي ولدت فيه ذلك الاهتمام لها كأمرأة تحمل الكثير من الجاذبية الذي يمكن وصفه بالجمال المنظم المرتب على منظرها واسلوب حواراته التي تنم عن صفاء روحها الطيبة المحبة للاخرين وخاصة لؤلاءك الحيارى التعبين ومنهم من يحملوا ملامح الغربة عنه والمنكسرين كشخص «احمد ابراهيم» ،وهي بنت الدكتور «حسين نحوي نجاد» من عرب الاهواز الذي انشأ مشفى لمعالجة المصابين بالمراض العقلية والنفسية بعد وفاة زوجته المريضة نفسيا التي تتعرض لنوبات هلوسة واضطراب اعصاب كما في وصف الرواية ،ويمكن ان تشمل حالة تياه وضياع العاشق الطيب الخسران الغريب «احمد ابراهيم»، وقد دعته للتعرف على اباها الذي رحب به، ليكون بعدها صديق للعائلة بعد ان نال ثقتهم به وهو يقدم استعداده لخدمتهم للعمل في المشفى لما فيه من مهمة انسانية كبيرة ازاء هذا النوع من الاهتمام في هذا النوع من الامراض.
لقد ولد تعرف «احمد» المفاجئ على «جيهان» ولما فيها من نضارة وانفتاح عليه، ذلك الانشداد والانجذاب لها واعجابه بتعاملها النشيط والشجاع مع خاصية هؤلاء المرضى، (ليكتشف انه وقع تحت تأثير سحرها و جاذبيتها وقوة شخصيتها.)ص57 حتى اخذته في مرة معها لمسيرة في المنطقة مما زاد في تقرب روحه لها وتفكيره بها ليحدثها عن اصله السومري حيث مدن اور ولكش جنوب العراق، ما يفضى على «احمد ابراهيم» تأصله بإنحداره التاريخي واعتزازه بسومريته.
ومن استقراءنا لمضمون مجريات وطقوس البناءات السردية تتضح مواصفات «احمد ابراهيم» ودواخله الحاملة للصدق والطيبة مع تجذره القروي الموصوف بالاصالة وكما في نموذج سلوك ومواقف «حسن الصكبان» المتزن بشخصيته الحريصة على انصاف الحالة والواقعة كما في اعتناءه بقبر الجندي الشهيد المجهول الذي اخذ منه التفكير الكثير ومطالبته ببناء قبر يليق به كمواطن قدم ورحه مقاوماً للجيش المتقدم لاجتياح ارضه.
ومع استرسال «احمد ابراهيم» في حنينه وتذكره الدائميين الى «وداد» وهي تنشد فتنتها ومعانيها التي تلاحقه كما في الذكر (احس بانه يعيش حياة جديدة في هذا البلد وما فيه من حضارة وتطور و حركة، عاد بأفكاره الى تلك النقطة الموغلة في اعماقه فاذا بوداد تحضر بفتنتها و ضحكتها و وجهها وما في عينيها من اسرار ومحطات عشق لا تنتهي حاول ان يبعد خيالها فأحس برائحتها تغزوه بقوة وتجعله) ص56.
وهناك حيث «حسن الصكبان «وما ألمِّ به من انكسار وحزن في مقتل ولديه ثائر وعقيل في جريمة سبايكر، وثقل الحدث على امهم «وداد «التي توال عليها الحزن ومن يوم فقدانها لأمل زواجها من احمد ابراهيم» وموت ابنتها «مريم «وتكرارها للبكاء وذرفها للدموع الثقال كما وصفته (…نحن الجنوبيات تربينا على الآلام والمذابح نجتر احزاننا وندفع ضريبة الحياة من اعمارنا، اجدُ في البكاء لذة واتذوق طعم الملح، ولا ارتاح إلا بعد ان اغتسل بذلك التيار العارم من الدموع، عندها احس ان هماً ازيح عن صدري)ص138.
وفي هذا الخضم من الاحداث، كان هناك «احمد ابراهيم» في الغربة وهو يدير مكتبة في إيران لبيع الكتب لعائلة الدكتورة «جيهان» ليتعرف على «ناهيد» التي صارت من أكثر زبائني المكتبة والاكثر شراء للكتب ليكون احمد قريب منها في حواراته ومحاولاته للانفتاح عليها املاً ان تكون مشروع للاقتران بها لكنه وبعد فراقها تبعث له رسالة من امريكا وهي بمعية زوجها وطفليها، هذه الحالة تشير وتثير الى ما يصطدم فيه احمد في مشاريعه حين يميل القلب معجباً ومنه بشيء من الانفتاح للزواج.
لقد صيرت الروائية «رسمية محيبس» وباسلوب سردي درامي لنموذج «وداد» تلك الحالة المعبرة عن المأساة ومن الفقد الكبير المتوالي عليها ،ومن موت ابنتها مريم وابنيها ،هذا الفقد المؤلم كثيرا ايضا للاب «حسن الصكبان» الذي انفلت مسافر الى منطقة تكريت حيث فقد ولديه في واقعة سبايكر، الم تصاعد فيه ليلقيه ارضا جثة هامدة، ليكون عند «وداد» فقدان لآخر دعائم و وجودها الحياتي لتكون اخيراً كيان من الحزن تملؤه الآهات والبكاءات والحزن، حتى تفارق حياتها هي الاخرى، تلك المرأة المنكوبة من جميع الجهات، ليقلوها اهل القرية لمثواها الاخير وكان «احمد ابراهيم» في مقدمة القوم..
ان السردية والبناءات المحكية المشكلة للرواية اتسمت بحرصها على توفير الكثير من عوامل القبول المتلقي ومن حرص الروائية «رسمية محيبس» على إنضاج الحدث ومن عدم قطعه عن السيرة المروية لتواليات السرد، فلم ينقطع شعور الحب عند «احمد ابراهيم» كما بقيت «وداد» باستذكاراتها له وباشتياق حصلت لها هنات امام زوجها «حسن صكبان» الذي أحس بها وهو العارف بحبها السابق لكنه يسامحها لوعي خاص به للحالة التي ابقت فيها شيء من التذكر.
كان الخطاب الادبي للرواية دعوة وتبشير على ضرورات القيم الاخلاقية، وهذا ما اتسم بها شخوص الرواية بتعددهم، فنلاحظ صدق الحب العابر من الحبيبين احمد ووداد. حتى الزوج « حسن الصكبان» باخلاقه وطيبته والذي صنع ونما تقدير ومحبة واداد له رغم بقاء شوقها لاحمد، وكذلك ما هم عليه الشخوص الذي تعرف عليهم «احمد ابراهيم» في الغربة، من جيهان وابيها الطبيب المعروف وزوج جيهان « وتعامله الصادق مع وردها بمحبة وتقدير لها لاحمد ورغبته في الاقتران بها وغيرها من محاولاته للخروج من القدر الذي رماها فيه الحب واستشرى به تذكرا يحزنه ويؤلمه.
ان الخطاب في تصويره لشخوصه وبالمواصفات ذات اللبوس الاخلاقي والمتزن يحمل بالأخير بالكثير من التفكر المؤنسن والدعوة له كما تبان اهميته في بناء الانسان وضرورته في ذلك، ويمكن للقارئ ان يحس ان الرواية كحوارات ووقائع وسلوكيات لم يحصل فيها ذلك التوحش ومن الكذب والكراهية، بقدر حملها لتلك الحالات التي تعكس الطيبة والصدق في التعامل وبما صنعت ذلك الطقس السردي المنضج لضرورات بناء حياة الانسان والاقناع بها.
ومن الملاحظ حرص الكاتبة «رسمية محيبس» في عملها السردي هذا على الابعاد عن اللغة الواخزة والخادشة في التعبير العام والغير ملائمة لمناخ الرواية المتسم بالخطاب الهاديء البعيد عن اللغة المعنفة للآخر والنابذة له، خاصة وهناك شيوع طارد للعداء والكراهية في الحوار والكلام البيني العام لحوارية السرد.
فمع احاين «احمد ابراهيم» المتوجهة بطلب الزواج ومن نساء غريبات عنه، لا تظهر الردود العنيفة الموبخه له، كما حصل مع «ناهيد» المرأة الزبونة في شراء الكتب من المكتبة التي كان يديرها، وكذلك الرد الهاديء الحنون لمياسة التي تحولت لامرأة شابة مشرقة حين دعها للزواج ايضاً، وصحبته الشهية ل»نهاد» سكرتيرة الدكتورة «جيهان» وما فتحت فيه من اكتشافات جديدة ازاء المرأة المتحررة ليثب عنده الرغبة في طلب الزواج التي يؤجلها وكانت تبادله الصداقة وحين خبرتها «جيهان» بالزواج منه اعتذرت كونها مخطوبة وهي على ابواب زواج…وبعد ذهابها تكلمت الدكتورة معه وختمها احمد في قول دال بسمته المازحة (ألم اقل لك يا امي ان ابنك شاخ ولم يعد يصلح للزواج)ص129.
وفي الفصل السادس من الرواية المعنون (الخيانات أما تقتلنا او تصنع منا ابطالاً) حيث الخطأ الكبير الذي وقعت به «مياسة بت الشيخ هذال» في الفاحشة وخيانة شريكها لها وحصول حالة الحمل منه لتضعها امام حالة صعبة، دفعها بالزواج من شخص مريض ومصاب بالتياه وغياب الانتباه منه لحالة الحمل الغير شرعية لها، وهذه الحسابات ومن عتبة تسميتها يمكن فهمها كقطب صراع محتدم وعالي الوقع من خطأها كحالة سلبية كبيرة للخيانات مقارنة ومتصارعة مع نزوع «مياسة» لصناعة المعادل الايجابي الذي يضعها بموضع البطل المشار له في العنونة، خاصة وقد اغرقت وليدها النهر، التي تعد جريمة لا يببر خطأها الفاحش بقتله، واحالتها للتكفير عن اخطائها ببناء مدرسة للأطفال على ارض ابيها وهي الوارث الوحيد لها، وطلبها بإنشاء مستوصف واخيرا اسكان عائلة فقيرة في بيتها، وتقديم مقتنياتها لأفراد هذه العائلة الفقيرة الفاقدة للاب.
وقد تطبع الخطاب الادبي للرواية بخطاب الروائي الامريكي «وليام فوكنر» في حرصه على تبيان القيم الاخلاقية والتبشير بها في كتاباته الروائية وتطبيع كتاباته بالمذهب الأنسني، وهو التوجه السليم الذي يبني الحياة العادلة للإنسان ومتعلقاتها.
وتبقى الرواية ذات سعة امتدت بالأحداث والوقائع وتعدد الشخوص الذين حملتهم الروائية «رسمية محيبس» وحملتهم ذلك الحوار ومن مداخل تعددت وتوزعت وفق الخارطة السردية الخاصة من الروائية، وقد اتسمت بهدوء الحوار ونفسه الطيب، ليلائم مهمته في التبشير والدعوة للقيم الاخلاقية الاصيلة بإتسامتها المتحضرة.