قبل عام من الآن اطلق البنك المركزي العراقي استراتيجيته الوطنية للشمول المالي في العراق ، لتشهد اروقةً أوساط المال والأعمال في حينها جدلا واسعا ،وتكهنات مختلفة ، كان اغلبها يجدّف باتجاه عدم إمكانية تحقيق أهداف هذه الاستراتيجية ، لدرجة ان البعض عدها «احلام عصافير» ، مستندا في ذلك الى معطيات الواقع العراقي الذي يشهد الكثير من المشكلات والتناقضات ، وواحدة من ابرز تلك التحديات ، هي غياب أو انعدام الثقة بين المواطن والمصرف ، ، ما تسبب في وجود حالة عامة من الانحسار المالي ، تمثلت بعزوف المواطنين عن التعامل مع المصارف ، لدرجة ان ظاهرة «الاكتناز البيتي» أصبحت هي السائدة ، الأمر الذي ادى الى إيقاف الدورة المالية والاقتصادية لكتلة نقدية هائلة ، قدرت نسبتها بنحو٧٧% من حجم العملة المتداولة ، كانت خارج أسوار الجهاز المصرفي ، مع حجم المخاطر التي تهدد ضياع هذه الأموال ، وبالتالي تسبب خسائر جسيمة للاقتصاد والتنمية
ومن الطبيعي ان مثل هذه المؤشرات من شأنها ان ترسم مشهدا متشائما للقطاع المالي في العراق ، وبالتالي فأنها تمثل فرصة للمتشائمين في إطلاق تكهناتهم باستحالة أو في الأقل صعوبة المضي في تحقيق أهداف استراتيجية الشمول المالي ، التي تهدف الى اتاحة الخدمات المصرفية والمالية لشرائح المجتمع المختلفة بكلف متهاودة ، وصولا لتحقيق جانب من أهداف التنمية المستدامة ، وفي المقابل كان المتفائلون يطلقون لأحلامهم العنان ، مؤكدين ان المشهد سيتغير ، وان الثقة ستعود ،وسنتخلص من ظاهرة الاكتناز البيتي ، وسنرى أكياس تلك الأموال محمولة على الاكتاف ، وقد جاء بها أصحابها لإيداعها في المصارف ، وبين فريقي التشاؤم والتفاؤل ،مضى البنك المركزي في العمل على تطبيق تلك الاستراتيجية ،بالتعاون مع المصارف الحكومية ، ومصارف القطاع الخاص ، وهذه الأخيرة ، ربما تدخل لأول مرة في حلبة التنافس مع المصارف الحكومية ، وكان من نتاج هذا التنافس ،في إطار تطبيق استراتيجية الشمول المالي ، مشروع توطين رواتب موظفي الدولة ، وقد كان لمصارف القطاع الخاص مساحة جيدة في مشروع التوطين هذا ، لدرجة ان بعضها تفوق في عدد المواطنين ،على نظيرتها الحكومية ، نتيجة الامتيازات وسهولة الإجراءات التي تقدمها لزبائنها ، وواضح جدا ، ان ثمة تغييرا إيجابيا قد حصل في المشهد المالي والنقدي العراقي ، بعد إطلاق استراتيجية البنك المركزي ، ومن مؤشرات هذا التغيير الإيجابي ، هو ارتفاع نسبة المتعاملين مع القطاع المصرفي الى ٢٣% في نهاية عام٢٠١٨ بعد ان كانت النسبة ١١% عام ٢٠١٤ ، – كما أعلن ترابط المصارف العراقية الخاصة في تقرير لها صدر مؤخرا-
وعندما نتحدث عن نسبة زيادة تصل الى اكثر من ٥٠% في عدد المتعاملين مع المصارف ، فان هذا يعد مؤشرا مهما ، يؤكد ان علامات التحسن مستمرة في الظهور ،وان رقعة الشمول المالي في اتساع دائم ، من دون ان نغفل القول ، ان نسبة ال(٢٣%) ،ليست كبيرة في وقت وصلت نسبة الذين يمتلكون حسابات مصرفية حول العالم الى اكثر من ٧٠% من السكان البالغين ، ولكن، لا يمكن بأي حال من الأحوال ان نقارن حالنا ، بحال دول اخرى سبقتنا في هذا المضمار ، فيما واجه العراق ظروفا لم تكن سهلة تسببت بتراجع الكثير من القطاعات التنموية ، ومنها قطاع المصارف .
خلاصة القول ، ان ما نستطيع تشخيصه الان ، ان ثمة تحسنا في نوع العلاقة بين المواطن والقطاع المصرفي ،وهذا من شأنه ان يعزز سياسة الانفتاح التجاري ، عبر استثمار الكتلة النقدية ، التي كانت مغيبة نتيجة غياب الثقة ، ولا شك ان عودة هذه الثقة ولو على خطوات قد تبدو بطيئة ، ولكنها ستؤسس لفتح آفاق وجسور ومجسرات مهمة لاتساع رقعة الشمول المالي ، واعتقد اننا قريبون من مشاهدة الصرّافات الآلية الصغيرة ، وقد انتشرت في كل مكان ، لدى بائع الخضرة ، وفي فرن الصمون وعند الحلاق ، وقطعا ان شيوع وانتشار هذا المشهد يحتاج الى جهود كبيرة من قبل المعنيين جميعا ،وصولا لتحقيق الشمول المالي الشامل ، في إطار سعينا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ، اذ يُعد القطاع المصرفي احد اهم مساراتها .
عبدالزهرة محمد الهنداوي