يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.
تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب
الحلقة 15
الحلقة الأخيرة
يمكن أن نتساءل بالطبع، ما الذي يفرض علينا أن نعتبر هذا التوصّل إلى توافق لباب التواصل بواسطة اللغة؟ ويكاد الجواب الذي يقدّمه هابرماز أن يكون جواباً ظاهراتياً حيث يطلب منّا أن نفكر بما نفعله حين نتكلم. فنحن نحاول على الدوام أن نُقْنع الآخرين بصحّة رؤيتنا للأمور ونتطلع إليهم كيما يثبتوا ذلك أو ينفوه. وقد نكذب عليهم عامدين، بل ويمكن أن نخدع أنفسنا بأشياء، لكنّ الهدف من قول ذلك كله هو إقناع الآخرين بأنّ هذا هو الحال.
ولا حاجة للقول أنّ نقاشاً واسعاً كان قد جرى حول هذا الوجه المثالي من أوجه عمل هابرماز حين يحاول أن يضفي عليه طابع الكونية والشمول بجعله أساس “أخلاقياته الخطابية” (هيلر 1984:1985، إنغرام 1987:1999: الفصل السابع). فكيف يمكن للأفراد الفعليين بأيّ حال من الأحوال أن يحسبوا ما هو مصلحة الجميع على نحوٍ متبادل ويخدم التوصّل إلى توافق؟ وحين تجابه وقائع القوة والسلطة أولئك الذين يحتلون موقع الخاضع، هل ينبغي أن يشعر هؤلاء أنهم مضطرون لقبول فكرة عامّة معيّنة عن الخير العام أو الصالح العام؟ وعلى سبيل المثال، إذا كان المرء يعمل في شركة حيث تُتَّخَذ القرارات لتعزيز مصالح هذه الشركة لكنها تؤثر سلباً على عدد من البشر، فهل يُفترض بأولئك البشر أن يقبلوا بمعيار التبادل كرمى لصالح الجميع العام، أم يرفضوا ذلك المعيار ويتصرفوا على نحو نفعيّ في محاولة لتحقيق مصالحهم الخاصة وضمنها؟
ولعل تصّور هابرماز عن التواصل عبر اللغة أن يكون أيضاً ذلك التصور المفرط في عقلانيته، حيث أننا حين نتكلم لا نعرف على الدوام ما نحاول أن نقنع به الآخرين. وقد يكون الأمر، كما يلاحظ آدم فيليب (2000: XIII)، “أنّ المرء لا يقول بالضرورة شيئاً ما أو يكتبه لأنّه يصدّقه، بل كي يكتشف ما إذا كان أحدٌ ما يصدّقه”. ومثل هذا الرأي لا يتعارض مع دعاوي هابرماز المتعلقة بالطبيعة التبادلية للتواصل، لكنه يشير إلى أنّ تلك الطبيعة أشدّ تردداً أو إبتعاداًعن الحسم مما يفترض هابرماز. وعلى سبيل المثال، فإن المرء لا يمكنه بأيّ حال من الأحوال أن يعرف مُسبقاً ما الذي ستتمخّض عنه محادثة ما.
والحال، أنّ ما يمثّل مشكلة بالنسبة لنا، إضافةً إلى طوباويّة هابرماز، هو تلك الخاصية الشكلية والمجرّدة التي تتصف بها أفكاره. فعلى الرغم من أنّه يقدم “الوضعية الكلامية المثالية” بوصفها تقوم على سمة جوهرية من سمات الحياة اليومية، فإنه يلحّ بالمثل على أنّها تشير إلى شيء إفتراضي، وليس فعلياً. فالمرء لا يقع على “كلام مثالي” حتى في حلقات البحث الجامعية، حيث يُفتَرَض أن تسيطر قوة الحجة الأفضل وحدها، وحيث يظهر الخطاب في “أنقى” حالاته. وإعتقادي، أنّ هذا المفهوم جدير بأن يستخدمه علماء الإجتماع الذين يرغبون في تحدي مجموعة من الترتيبات الإجتماعية التي تبدو مقبولة لدى الجميع، أما بمعنى أوسع فينبغي أن يُنظر إليه على أنه ينبع من توافق لا عقلاني. وكما هو الحال بالنسبة لأعمال أسلاف هابرماز، فإنّ هنالك مما ينبغي إستكشافه وتحدّيه أكثر بكثير مما يمكن لي أن أورده في هذا المقام. غير أنّ عمله إذا ما كان جديراً بالقراءة، فذلك لأنه يفتح، مثل أعمالهم، آفاقاً للفكر تتحدى الإفتراضات التقليدية المُتعارف عليها ويوسع فهمنا لما يجري.
وبالنسبة للقارئ المحتمل الذي يمكن أن يشعر بأن النظرية النقدية طوباوية على نحوٍ ساذج وغبي إذ ترفض أن تقبل الأشياء كما هي، فإنني أعتقد، على العكس، أنّ طوباويتها هي التي يجب أن تلفت إنتباهنا، فالطوباوية لا تدور حول إختراع شيء ما من العدم، بل تدور حول إستخدام المرء خياله وقدرٍ من الذكاء في التعالي على حدود ماهو “واقعي” في الوقت الراهن. وهي تشتمل على تفعيل الإمكانيات الكامنة في “ماهو قائم” كيما نلقي بنظرة ما يمكن ان يقوم؛ أي أنّها تشتمل فعلياً على كشف الواقع مزيداً من الكشف، وليس على المقامرة به والمبالغة فيه. وهي لا تعني أن نرفض “الحكايات الصغرى” لدى ليوتار، أو جزئيات الحياة، كرمي لما هو كونّي ومجرّد، بل تعني تعزيز العلاقة بين الإثنين. وفي زمنٍ نعيش فيه في عالمٍ واقعي مفرط خالٍ من المعنى، إذا ما كان بودريار على صواب، فإنّ الإعتماد على الروح الطوباوية لدى النظرية النقدية يكون أكثر أهمية من ذي قبل. فالعالم الذي لا يمكنه أن يتوقّع ما هو أشدّ حيوية من “الطريق الثالث” الذي يقدمه غيدنز سرعان ما سيغدو عالماً بارداً، وكئيباً، وبلا هدف.
وبالمثل، وإزاء قارئ يمكن أن يشعر بأنّ مثل هذا العمل “قد فات أوانه”، ومن الخراقة كتابته، أو أنّه لم يعد دارجاً بعد أن تجاوزنه أعمال أحدث، فإنني أرى أنّ قراءة النظرية النقدية لا تزال بمقدورها أن تنير لنا حقيقة العالم الذي نعيش فيه.
خاتمة:
لدى تناول غادامير (1989: 284-290) قراءة النصوص “الكلاسيكية”، علّق على غرابة إكتشافه أننا غالباً ما نفضّل قراءة كتاب كلاسيكي على قراءة كتاب حديث. ومع أنّ كلام غادامير كان يجري على الكتب التاريخية، إلا أنّ الشيء ذاته يصحّ على النظرية الإجتماعية. فالمنشورات الحديثة قد تكون أفضل من حيث معلوماتها الإمبريقية ولعّلها تشير إلى التطورات اللاحقة في هذا الفرع المعرفي، غير أنّ بمقدورنا أن نقرّ بذلك في الوقت الذي نجد فيه أنّ الأعمال الأقدم أعمق تبصراً. وثمة ما يشبه ذلك في الروايات المكتوبة منذ قرون خلت؛ بل إنّ ما كان يدور في خلد غادامير هو الفن الأدبي، والشعر على وجه الخصوص، بوصفه النمط المثالي لهذه الفكرة. وواقعة أنّ حيوات البشر المكتوب عنهم تختلف تماماً عن حياتنا، وأنّ أسلوب الكتابة شكلي أكثر من الأسلوب السائر الآن، لا تحول بيننا وبين فهم ما يحدث أو التماهي معه، و لا تمنعنا من أن نجد قوة معنى في أسلوب لغويِّ أشد تحفظاً. والحال، أن غلدلمير كان يتكلم عن كل فهم أنه “التحام آفاق”، حيث تبرز إفتراضات الماضي والحاضر المسبقة قبالة بعضها بعضاً على نحو حواريّ. وما يقوي النص الكلاسيكي على القيام به هو تصوير شيء ما بتلك الطريقة التي تبيّن لنا بمزيد من الوضوح ما نحن عليه الآن بالنسبة إلى الماضي.
يعتقد غادامير لأنّ النصوص الكلاسيكية تكشف الواقع بأوضح مما تكشفه النصوص الأخرى. فهي تقاوم أن تُقْرَأ بسطحية على أنّها نتاج مباشر للسياق الذي ولّدها كما أنها تؤوّلنا بمعنى غريب بقدر ما نؤولها. وما يعنيه غادامير بذلك هو أنّنا بقراءة هذه النصوص لا نواجه موضوعاً بما هو كذلك بل نَنْشدُّ إلى علاقة تغيّرنا.
هكذا نجد أنفسنا ونحن نخضع لتجربة تقع لنا، تجربة ليست من صنعنا؛ تجربة حيث يؤوّل النصّ حيواتنا سواء راقنا ذلك أم لا.
ففي قراءة مثل هذا النصّ نجد حقيقة تلك الفكرة العادية إنّما الملغزة التي مفادها أنّ ثمّة شيئاً ما “يحفّزنا”.
وغالباً ما يستخدم غادامير الكلمة الألمانية “einleuchten”، وتعني “يضيء”، حين يتكلّم على الحقيقة التي تكشفها مثل هذه النصوص.
ونحن أيضاً، كثيراً ما نتكلم على نص يُخْرَج إلى الضوء، شيئاً ما، أو على كونه نصاً متبصراً أو كاشفاً للأشياء وموضحاً لها. وفي كلتا الحالتين، فإن ما يلفت الإنتباه هو فكرة وقوع شيء ما نَيّر ومضيء. فمثل هذه النصوص قادرة على أن تكشف لنا أشياء عن موضوعها تتخطى ماتقدر عليه نصوص أخرى. فهي تجمع معاً عناصر منفصلة ومتباعدة، وأشياء لا نعرفها إلا قليلاً، أو نتخيلها، أو نختبرها على نحوٍ عابر، وخيوطاً ما إن نضمّها بطريقة معينة حتى توقظ فينا إدراكنا للحقيقة.
ومعنى النص الكلاسيكي ليس معنى سكونياً، لأن مثل هذه النصوص ليست “فوق” التاريخ بل منطمرة فيه؛ فمعناها يتغيّر إستجابة للأسئلة الجديدة التي تُطرح عليها. وهي تبرهن أنها “كلاسيكية” إذ تقدّم أجوبة عن أسئلة تبزغ في آفاقنا الجديدة. ويبقى سؤالاً مقتوحاً ما إذ كان علينا أن نعد نصوص النظرية النقدية نصوصاً “كلاسيكية”؛ إذ ليس لأحد أن ان يشرّع أو يسنّ القوانين لما يمكن أن يجده قارئ ما من قيمة في هذه النصوص. ومن المؤكد أنني لا أرغب لهذه النصوص في أنتفرض فرضاً بوصفها جزءاً من مُعْتَمَد مُكرَّس، بل أرغب وحسب في أن تُقرأ بتصميم وتركيز وبشيء من طول الأناة. فهي ليست سهلة القراءة، غير أن طالباً علق لي مؤخراً بصدد ميشيل فوكو، ذلك الكاتب العسير بالمثل، فقال إنّ “عمل فوكو غالباً ما يكون أيسر بكثير وأوفر معنى من كثيرٍ من أعمال الذين يعلّقون عليه”.
وقراءة التاريخ بإطلاقه ضدّ التيار، كما نصح فالتر بنيامين (259:1973) يمكن أن تكون مربكة، كما أنّها لا تتيح لنا تلك الراحة التي تتأنى من نسيان رعب الماضي، ولا ذلك السلوان الذي ينجم عن تخيّل أنّ الأشياء هي أفضل الآن بالضرورة. ومع ذلك، فإن العودة إلى أولئك الكتاب يمكن أن تكون تذكرة باهرة، وإنْ كانت حادّة، بالمكان الذي أتينا منه قياساً بالمكان الذي نحن فيه الآن.
كما يمكن أن توفّر لنا أيضاً ذلك الفهم المتبصّر لما يمكن للمستقبل أن يكون عليه.