جورج شحادة
ترجمة ميشرافي عبد الودود
عندما اقتحم الشاعر اللبناني جورج شحادة (1905-1989) المشهد الشعري الفرنكوفوني في أوج ازدهاره في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، فاجأ العالم الشعري بقصيدة جديدة لا تشبه سوى ذاتها، وليست في حاجة إلى الزمن، لأنها ولدت مكتملة منذ السطر الأول. وسرعان ما أصبح اسم الشاب القادم من الشرق محاطا بهالة من السحر والضوء وسط محبيه من كبار الشعراء أمثال ريني شار، وبول إيلوار، وسان جون بيرس، الذين بادروا للاحتفاء بفرادة هذا «القادم من هذه الأمكنة، حيث تتسق العمارة بسيطة ومجردة، حول حجرة جد مخترقة، شاغرة وعارية بلا حدود. إنه سليل السلالة الإنسانية التي لا تعرف من الورد سوى الجوهر، ومن اللؤلؤ سوى المشرق» بحسب شاعر الرياح.
من التقديم الذي تصدر مجموعة جورج شحادة في سلسلة غاليمار الشعرية الشهيرة بقلم الناقد الأدبي غيتان بيكون نقتطف ما يلي:
«هذا الشعر ليس تجربة في اللغة: إنه كلمة تجربةٍ، لا تشيِّد، مفردة مفردة، الجسر الذي سيتيح له اجتياز أرض الوطن، الأرض التي يعبر فيها الزمن، تحت السماء الكونية، بلا ساعات أو عمر، مكتفياً بالكلمات، بلا شك، لكن تلك التي لا تجترح كيميائها، لا تدون صيغتها، فيما تقول ببساطة، نفَساً واحداً، ما كان يعرفه دائماً: إنه شعر يواصل صليل ينبوع تواتره، لأن هذه الصليل الذي أسمعه، وأعرف أنه ليس أقل شأناً من عطره، في كل مرة أفتح الكتاب، حيث تتلاشى قراءتي أيضاً، في الصوت المتمهل، المكتوم، المرتل للشاعر – وها أنا أقترن به كما
«غيتان بيكون: هذا الصوت الذي أُرجعه للشاعر (جورج شحادة)، أشعر أنه في حد ذاته صدى صوت ضارب في القدم، تخترق قوته من خلال سحر تغير المقامات الخاصة الرؤيوية والحكمية للقدامى؛ الصوت الذي يحاور الصقيع على قمة الجبل، كما كان يفعل الله، أو على عتبة الحديقة المهجورة، عندما انفتح العالم أمامنا حيث سيكون المنفى والندم بلا نهاية» لو كان صوتي؛ لكوني راوياً أكثر مني قارئاً. لكن هذا الصوت الذي أُرجعه للشاعر، أشعر أنه في حد ذاته صدى صوت ضارب في القدم، تخترق قوته من خلال سحر تغير المقامات الخاصة الرؤيوية والحكمية للقدامى؛ الصوت الذي يحاور الصقيع على قمة الجبل، كما كان يفعل الله، أو على عتبة الحديقة المهجورة، عندما انفتح العالم أمامنا حيث سيكون المنفى والندم بلا نهاية».
القصيدة المترجمة أدناه «بورتريه جول سوبرفيال» نشرت عام 1954 في العدد الذي احتفى بالشاعر الفرانكو أوروغواني جول سوبرفيال (1884-1960) في إحدى مجلات غاليمار.
هذا الفتى الذي ينحدر في أحد شوارع مونتفيديو
بألماس في الأصبع
مرتديا الأسود كقاض قروي
إنه جول ابن جان
(يرغب في احتساء كوب شاي على قارب فيما البحر بعيد!)
يجيد الكثير من الأشياء أثناء المسير
الرد على طائر العقعق
إلقاء التحية على تلميذة السادسة عشرة
في نافذتها الخزفية مثلما بندقة في الظلام
(الأشجار الضخمة تتخفف من أوراقها الجافة. إنها عصرية جميلة في الأوروغواي)
ماذا حل بك الآن جول
منذ فقدت العشرين سنة من ظلك؟
منذ ذبلت الميموزا في صدريتك المزهرة؟
(في الخارج ثمة ريح هندية هينة تنوح)
كيف يتخيلون وجهك
هؤلاء الذين لم يروك أبدا من قبل
(جالسا على درجات كتبك)
(أو حافي القدمين في ينابيعك)
على ضوء شمعة تميل بشعلتها
ماذا لو أخبرتهم أنك تشبه ساعي بريد جبلي
سنديانة جرّدها الليل من أوراقها
فيل وفراشة يجتمعان في نفس الظرف
(بأنفك الكبير كحقيبة سفر)
بساقيك اللتين لا تنتهيان
لأنك طويل جول مثلما عمرك مرتين
ليتهم يستطيعون سماع صوتك بخرير المياه
ليتهم يستطيعون رؤية شال التوبة على كتفيك
في منزلك بالقرب من الشارعين حيث ترتدي التاج
لا أحد يجاريك في هزّ خوخ شجرة الشعر
أيها الشاعر المألوف…
فليفتح الحصان الجالس على عرشه في زقاق الخبازين
للغسق مصراعه وليتذكر فيما يسحب نفسا من منخره
من الأجمل الذي احتفل بصدره الغزير بالشعر واللؤلؤ؟
من سرّحه في الزمن بحبل؟
من جمع قوائمه الأربع في تراب الساعة الرملية؟
ومن اعتنى بلحية الأسد المدورة بمقصات دائرية؟
من ختم مخلب الأسد على وردة الربيع؟
من علّمها الانحناء بوقار كسيدة صغيرة
لتكون حارسة الليل في القصائد؟
العصافير التي تطير بأجنحة كونية فرحا للعيون
من سجنها في مجرفة؟
تاجر بالعنبر مع قطة تزن ثلاثة أرطال؟
ووضع على الرف مربى القصب؟
في الخريف عندما تنخرط الرياح والناس في النحيب؟
ليس ثمة سعادة يا جول ليست مناخوليا
الآن يخيم الظلام على شارع ماسني
الغيلان في كل مكان
ساعة يدك مونتفيديو مستريحة على الطاولة
النوم أخذك من الكتفين:
إنه يمزج التفاح الفرنسي بقصب سكر الحوريات
فيما تنام ككتاب مصوَّر ضخم.